الخميس، 5 مارس 2009
تقديم
"كما يليق برجل قصير" وجوه هائمة وأحلام مقموعة
وجوه هائمة وأحلام مقموعة في مجموعة قصصية مصرية
يتخذ الكاتب المقهى مكانا أثيرا للكتابة يتيح له التقاط ملامح الناس المتنوعة
جمال القصاص
وشخوص الطويلة ليست نمطية، فلا تعتمد على نقطة بداية أو نهاية، أو تضاريس اجتماعية وتاريخية محددة وصارمة، بل من فرط تشظيها في المكان تبدو وكأنها ليست مهمومة بقضايا كبرى، بل ربما ليست مهمومة بقضايا من أي نوع، لكنها مع ذلك مسكونة بشرطها الانساني البسيط، أو بمعنى آخر مأزقها، تحاول الانفلات منه، أو التأقلم معه بوعي بدائي عفوي، أو تتركه ـ أحياناً ـ للمصادفة البحتة التي قد تنقلب الى النقيض والضد. إنها شخوص تريد أن تعيش لحظتها، بصرف النظر عن أي ألم محتمل في الغد.
وعلى ذلك تطالعنا القصة الأولى في المجموعة «مصابيح بعيدة» بهواجس غلام، يتأمل ظله الذي يقصر ويطول على فترات متباعدة من النهار، ويتمثل هذا في موازاة مع عشقه للنخلة، وتفوح روائح القرية بطقوسها وعاداتها في خطوط السرد المنداح على سننه. وتومض في القصة علاقة اعتباطية، سواء بين الغلام ومفردات واقعه، أو بينه وبين الشخوص الأخرى. وهذه العلاقة سمة لافتة على نحو خاص في القصص التي تتكىء على هاجس القرية، حيث يظل هناك حاجز ما بين الرغبة وتحققها، ولا تملك الذات إزاء هذا سوى طاقة الحلم، تنثر فيه فوضاها وأشواقها، ولو على سبيل التخيل. وهو ما يظهر في قصة «مائة غمزة بالعين اليسرى» حيث البطل ذو الساق العرجاء ينفس عن كبته، بتخيل مواعيد غرامية مع ثلة من فتيات ونساء، لكن رغبته تخذله حين يصطدم بالواقع، وبعمته العانس التي ترمز بدورها الى اليباس والعقم.. وفي قصة «تصويرة» مثلاً، يخذل الواقع رغبة حجازي وكاميرته الطينية، وحلمه في التقاط صور حقيقية لتلاميذ المدرسة ونسوة القرية. وفي قصة «مدار الجدي» تتعلق حياة «نعمات» وأشواقها لعودة فتاها بأهداب رغبة لذلك.. «تظل تنتظره في البلكونة، تمسك بيدها بقايا الوردة، تباغتها وهي تعد.. سيأتي.. لن يأتي». ومن خلال شظايا المونولوج المبثوث بذكاء في نسيج السرد تطالعنا صورة الفتى وهو يستعيد أيضاً بخيالاته صورة رغبة، تحاصره من كل الجهات وتكاد تخنقه، فيناجي نفسه في إهاب ضمير الأنا - المخاطب.. «صور عديدة تفاجئك على الحائط لرجال بأعمار متقاربة، ملامح متشابهة، إطارات مذهبة، بدون علامات سوداء، منزلقة على الإطار، وستكتشف أن هناك إطاراً فارغاً، وهي تخرج عليك مدهونة بالروب الأحمر مثل هند رستم في أفلام زمان».
ان الرغبة هنا ليست مجرد رمز على الفقد، أو الحرمان، أو الجوع، أو الكبت فحسب، وإنما هي بمثابة بحث عن وجود هارب، وزمن آخر، لا تطاله شوائب الذبول والانكسار، زمن يكمن في الرغبة ويتماهى معها، ففي داخل الرغبة نفسها تكمن امكانيات تحققه وتجسده بل وصيرورته، لذلك هي رغبة مفعمة بالحيوية والحركة، كما انها ليست مستحيلة، أو قرينة العدمية، بل تظل امكانية مفتوحة بعفوية على فوضى العالم والذات معاً، وأحياناً تتماهى مع الموت، ليس لأنه نقيض الحياة فحسب، وإنما لأنه ينطوي على سرها الأكبر، لذلك تتحول مواساة البطل الذي يهذي بالحمى ويشارف على الموت في قصة «كما يليق برجل قصير» التي وسمت المجموعة، تتحول الى رغبة في تحقق الموت نفسه، للفوز بمفتاح الصندوق، وكأن الرجل الميت أودع فيه كل أسرار الحياة.. ان الموت هنا ليس مجرد فعل عبثي، حتى وهو يعكس الوجه الآخر السلبي النقيض لجوهر الرغبة نفسها، انه نوع من الحلول، للخروج من المأزق، وامكانية، ربما تتحقق فيها رغبة الآخرين وحلمهم.
ويعتمد الطويلة في هذه القصة على شرائح مشهدية، تتعاقب على فعل الموت الذي يمثل زاوية رأسية، ورأس سهم لمنحنى درامي صاعد ومتوتر، مخفوق بمسحة طقسية، يتضافر فيها إيقاعا الداخل والخارج، حيث تختلط في سكرة الموت هواجس طفولة البطل وشبابه، يسردها بضمير الغائب الحاضر، وهو يتأمل أصدقاءه وأخواته، وهم يتحلقون حوله، متلهفين لوصيته الأخيرة. ويجدد الصراع في نهاية القصة نفسه بشكل سريالي، منقلباً الى الضد، ويتركنا الطويلة أمام عدة احتمالات لنهاية واحدة، أو بمعنى آخر لبداية لم تنته بعد، حيث.. «لا أحد يسأل عن المفتاح، لا أحد يأخذ عزاءه، تركوا النعش عند باب المقبرة، وهرولوا عائدين. في منتصف المسافة انكبوا على وجوههم، وعندما انتبهوا وجدوه يصعد المئذنة كعادته.. هذه المرة كان مرتدياً طاقية طويلة».
وفي القصص التي تراوح هاجس المدينة يخف إيقاع السرد ويتحلل كثيراً من كونه مجرد بنية، أو وعاء تتبلور فيه أبعاد وخيوط الصراع بشقيها المرئي والمتخيل. وربما يفسر ذلك أن الأنا الساردة لا تكترث كثيراً هنا بوعيها الضمني المسبق، والتي تلعب فيه الاستعارة دوراً أساسياً خاصة عند نكش صور الماضي وذكريات الطفولة، بينما في هذا الهاجس تواجه الأنا وعياً مفارقاً وصادماً ومراوغاً، يولد للتو، بأوجه وأقنعة متعددة، ولذلك تتحول الرغبة التي تشكل عصب الصراع في المجموعة من فعل إشباع غريزي محدد، الى حزمة من شظايا تومض في مرآة مهشمة، تكشف التناقضات المضمرة في طوايا الشخوص والأشياء والعناصر، وتبرز كذلك غواية الأسئلة، والمفارقات والرموز التهكمية، بدلالاتها السياسية والاجتماعية والعاطفية، وفي الوقت نفسه، ينتفي الصراع كفكرة وإطار، ويصبح هم القص لملمة الملامح والوجوه المتشظية، واخراجها من إطارها المهمش المهمل، لتكتسب حيوية خاصة، بل تبدو أكثر واقعية في نسيج القص نفسه.. ففي قصة «وردة الحب الصافي» تستعيد الأنا الساردة «الكاتب» وجوه أصدقائها، وفي حوار متقطع ساخر، تتجسد الرغبة في الحب كشيء هزلي، خاصة حين تتحول الحبيبة الهاربة الى أشباح حلم عصي عن الولادة، أو حلم مقموع بأوهام الذات نفسها. حينئذ لا تملك الأنا الساردة سوى تنويع شرائح مسروداتها بين الأصدقاء الثلاثة، إمعاناً في السخرية من الذات والحبيبة والواقع معاً، لتنتهي القصة بهذه المفارقة الكوميدية.. «حين انتهينا من جلستنا، أخرجنا محافظنا لدفع الحساب شركة كما اتفقنا. كان كل منا يداري صورتها التي تكاد تبرز من محفظته، وعيوننا تتطلع الى السلم الذي يهبط الى المقهى الواطىء» في إيماءة لافتة الى ابتذال الحب نفسه حين يصير شيئاً متدنياً تحكمه المنافع الذاتية الضيقة.
وفي قصص «يقف كزاوية شبه منفرجة» و«زجاج معشق» و«بن خفيف للسعادة» و«أطلس جديد لافريقيا» تطالعنا وجوه أخرى للرغبة، وتتوزع هذه الوجوه نفسياً وزمانياً بين دالين شديدي الحساسية. في الدال الأول تبدو الرغبة وكأنها فعل تحريض لاستثارة أشواق منسية وأحلام مقموعة، مثلما يحدث في قصة «زجاج معشق» وفي قصة «أطلس جديد لافريقيا» حيث المشهد يتحول كله الى فعل لاستثارة الرغبة، ويتقاطع مونولوج البطل مع هواجسه وخبراته العاطفية السابقة، ويحرضه هذا الفعل على استعارة نتف من وجوه أصدقائه وأشيائه الخاصة الحميمة، تتضافر في سياق السرد، وتضفي عليه مسحة من الفانتازيا الآسيانة.. أما في قصتي «يقف في زاوية شبه منفرجة» و«بن خفيف للسعادة» فيتحول دال الرغبة الى فعل تطهير. ففي القصة الأولى يتجسد مأزق البطل في كيفية الانسحاب من الحب نفسه، وصوره الشكلية التي تلاحقه هنا وهناك، وبعد ان تبخر الحب نفسه من نطاق الامكانية الى نطاق الاستحالة، لايملك البطل في نهاية القصة سوى طرح هذا السؤال الاعتباطي الساذج.. «هل من الممكن لبنت في سنة ثالثة كلية ان يزداد طولها قليلا».. وفي القصة الثانية نلاحظ انه على الرغم من ان الرغبة تملك طيلة الوقت امكانيات تحققها بين البطلين المحبين المخطوبين - كما تشي القصة - إلا انها تتحول في النهاية الى فعل استحالة وطاقة تدمير، حين يعلي طرف إرادته ونفوذه على حساب الآخر، وحتى لا ينفلت زمام العربة، وتصبح عربة طائشة تصطدم بما حولها بلا وعي، وربما تودي بحياة قائدها، لا يجد البطل خلاصاً سوى الانسحاب من الرغبة، وباسم الحب نفسه.
يبقى ملمح لافت في تكنيك الطويلة القصصي وهو مقدرته الفائقة على نفي الزمنية، كوعاء نمطي ومرجع تاريخي واجتماعي ثابت وجامد، يسيج حركة الشخوص ويحد من حركتها وفعاليتها الدرامية، مبتكراً منحنى زمانياً خاصاً، يتخلق من نسيج القص نفسه، وتنويعات السرد واللغة، واللعب بوعي القارىء من خلال منظور فني متشظٍ، لا يبحث عن جوهر الأشياء في وحدتها، وإنما فيما يتبقى منها من نتف وملامح وشظايا وربما يؤكد ذلك اتخاذ الطويلة المقهى كمكان أثير للكتابة يتيح فسحة أوسع وأعمق لتأمل التقاط هذه الملامح المتنوعة، أو على الأقل استثارة ظلالها في وعيه المسكون بهاجسي القرية والمدينة معاً.
فانتازيا الجوع والشبع ممزوجة بروح السامر الشعبي
حواديت القرية وألاعيب اللصوص والمطاريد في رواية مصرية
وحيد الطويلة في «ألعاب الهوى» يمزج فانتازيا الجوع والشبع بروح السامر الشعبي
جمال القصاص
يلعب وحيد الطويلة في روايته الأولى «ألعاب الهوى» الصادرة حديثاً عن مركز مريت بالقاهرة، على أزمنة الحكي الشفاهية والتي تتمثل في حواديت وطرائف ونوادر القرية المصرية। ويشكل من دلالاتها الفارغة والاعتباطية والساذجة مناورة سردية شيقة، يردفها بخيال جامح، مسكون بمجاز الحكاية، وروح ساردة نزقة، تشيع جواً من المرح والسخرية في تخوم النص، ولغة هجين تمتح من الفصحى والعامية معاً، وتمزج بينهما في تساوق سلس ومحكم، يكثف من حيوية الحوار ويضفي عليه مسحة من الشفافية البصرية।
بداية الرواية يطالعنا واقع هزلي لقرية نائية، جهمة، ضاربة في الحلكة والفقر، وشخوص معظمهم من اللصوص والمطاريد والساقطين من غربال الزمن والحياة، لا يحركهم سوى نوازع الجشع والطمع، مفتقدين أدنى إحساس بالنبالة أو الكرم. وفي المقابل يبدو بطل الرواية «الشيخ حامد» ذا نزعة إبيقورية من نوع خاص، فخياله لا يذهب ـ غالباً ـ أبعد من حدود بطنه، وكأن الطعام متعته، بل مرثيته الوحيدة في الحياة.
حامد، خطيب مسجد القرية، المتعلم في الأزهر لا يكره سوى شيئين: الجوع والموت، لذلك يسخر منهما في أعماق نفسه، ويطاردهما حتى في الحلم، وهو يرى أن العالم خلق في لحظة جوع، وأيضاً سيؤول إلى الفناء في لحظة جوع، ثم إن البشر ـ في رأيه ـ لا يعرفون الشبع، بل هم دائماً مفطورون على الجوع. ويضرب الأمثلة على ذلك بشكل طريف ـ أحياناً ـ في خطبه بالمسجد. وعلى نحو خاص في نكاته ومزاحه مع صديقه الشيخ اسماعيل، الكفيف مساعده في المسجد. وعلى العكس من ذلك يبدو «النادي» أخوه الأصغر عادلاً قوياً، صاحب سطوة ومهيبة خاصة، يعمل للصالح العام.. يموت النادي فجأة، في لحظة مصيرية من حياة القرية، وبعد أن اكتمل على يديه مشروع المصنع الجديد، الذي سيقي أهلها الغلابة ويلات العوز والجوع.
وبموت النادي ينكسر الحلم، وينفرط عقد الزعامة الوهمية في القرية، في مكائد وفتن وحروب صغيرة، تُسرق خلالها حجة القرية من حوزة الشيخ حامد، ويغتصب «وفازيت حار» ابن أخيه، «الفنجرية» بائعة الفاكهة الشريدة التي أوتها القرية. وتلمح الرواية إلى علاقة ما غامضة بينها وبين النادي، حيث كان يحوطها بهيبته، ويحميها من غوائل الزمن والبشر. وكما يشير النص.. «جميلة من الغجر، قال النادي وصمت، بدا كما لو كان الوحيد الذي يعرف خبيئتها، ولم يبح لأحد، استطالت جذورها في البرية، وتفتحت مواهبها يوماً بعد آخر، انتقلت من العسل الأسود والليمون إلى الأفراح والمآتم، وهات ياعديد».
في هذا الجو تتسع سطوة اللصوص والمطاريد، بخاصة في لعبة الانتخابات التي يزج فيها الشيخ حامد عنوة، وبعد أن يحال إلى التقاعد تاركاً مهمته في المسجد لواعظ آخر.. وتسود حالة من الاضطراب والتشرذم القرية فلا أحد يستطيع أن يملأ فراغ النادي أو يعوض وجوده الذي أضحى بمثابة ايدلوجيا شعبية، وهو ما يرشح شخصية النادي لأن تتماثل رمزياً مع شخصية جمال عبد الناصر.
ويثير هذا الالتباس الرمزي العابر في طوايا الرواية سؤالاً مهماً حول علاقة النموذج بالجماعة، وكيف يتحول كلاهما إلى قناع للآخر، يضمن، أو على الأقل يؤمن حدود وجوده، فإذا انكسر القناع ترتبك الجماعة، حتى تبحث عن قناع آخر. بيد أن هذا الاستيهام السياسي لا يتوقف فحسب عند شخصية «النادي» فثمة استيهامات سياسية أخرى، يمكننا أن نجد تجسدات لها في الوقائع السالفة الذكر.. وغيرها. وهي استيهامات استطاع النص أن يضمرها ويموهها في حركته صعوداً وهبوطاً، وإن ظل بعضها ناتئاً ومقحماً لاصطياد مفارقة خارجية غير مشبعة بروح النص نفسه، أو نابعة منه. وربما يجسد ذلك هذه الممازحة بين «وفا» وعمه حامد بطل الرواية.. «عليّ النعمة من نعمة ربي يابا حامد، انت أحسن من جمال عبد الناصر.. إنت بتتريق عليّ يابن خويا؟! عبد الناصر هو اللي بدع الاشتراكية، وانت اللي طبقتها، والله لو عرف يمسك البلد زي ما انت ما مسكت العيلة لحل مشاكله، لكنه ساب كلابها على ديابها».
وعلى ذلك، ففي مناورة السرد يفضح الطويلة الحكاية، يعري منطقها وتواطؤها ويرميها على قارعة الطريق كمحض واقعة، شائعة ومبتذلة، وكأنه هنا يذكرنا بحس السامر الشعبي، الذي يمزج الراوي فيه ايقاع السرد، بلطشاته المطولة والخاطفة والمتقاطعة بمتعة الفرجة، ليفض في النهاية مكنون الحدوتة، أو الأمثولة، أو المروية، ويتحول الجمهور ـ من ثم ـ إلى شهود عيان، ليس فقط تحت تأثير لحظة الاستماع، بل بما يضفيه على الحدوتة نفسها من طلاءات تشارف روح الحكمة أحياناً، والفانتازيا والقداسة أحياناً أخرى.
وبرغم إن الراوي أو «الكاتب» نفسه متورط ضمنياً في النص، إلا إنه يحتفظ دائماً بمساحة ما محايدة، تتيح له حرية الترقب، والوصل والقطع لخطوط الزمان والمكان، سواء في النسيج الداخلي للنص، أو في محيطه الخارجي والذي يراوح ما بين حقبتي الستينيات والسبعينيات في مصر. وهو راوٍ حذر، شديد الحيلة والتيقظ، يشبه ـ بلغة الطويلة نفسه ـ الذئب الذي يغمض جفنيه مدعياً النعاس، ليهب الفريسة نوعاً من الأمان الزائف.
يتحرك هذا الراوي في النص على مستويين أحدهما علوي، والآخر سفلي، فهو لا يختلط بحوارات الشخوص، ولا يتدخل في حيواتهم ومصائرهم، بل يعلو على ذلك في لحظات. وفي لحظات أخرى يبدو وكأنه يحرك كل الخيوط، لكن بشكل شفيف غير مرئي. وقد أتاح هذا للنص القدرة على أن يتحول بتلقائية من الداخل إلى الخارج والعكس في الوقت نفسه، كما ساهم في خلق نوع من الذبذبة الدرامية في حركة ضمائر السرد وهي تنتقل بين الأنا، والنحن، والهم، وصيغ النفي والاثبات، والاستهلال والوصف، وسط سطوة الفعل المضارع ظاهرياً، والذي يشي بكثافة زمانية ما، لها امتداد تاريخي قائم ومتحقق بالفعل، يتجاوز الحدود أو الحرية المتوهمة للنص.
يخرج الشيخ حامد من عباءة الميثولوجيا الدينية بشكلها التقليدي، لكنه يحولها في الحلم إلى طقس شعبي، مخفوق بروح مُفَارَقةٍ حريفةٍ، وتوترات منولوج داخلي متقطع، تختلط فيه الرؤى الحلمية والمشاعر الكابوسية، ومحفوف في الوقت نفسه بنبرة سخرية من الموت والذات والآخر، تظللها نوازع وهواجس مرحة، تغيم فيها الحدود بين الجد والهزل، بين الواقعي والمتخيل.. فالشيخ حامد التقي الورع الذي لم يشتهِ في حياته سوى لذة الطعام، ها هو يوشك أن يخسر آخرته بسبب حسنة وحيدة، لا يعرف كيف يعوضها، أو حتى يستدينها من أحد أقاربه أو معارفه، ولا ينسيه جو الحلم المفعم بالمفارقات تاريخه الشخصي ولذته الأسيرة، لذلك يخاطب نفسه.. «حسنة بمليم يا حامد، حسنة واحدة وتصل للبريمو، وتأكل الديك الرومي وحدك، والنساء مثل لهطة القشطة حولك، فلتبحث عن أبيك رغم أنك كنت تخاف منه خوف العمى».. وحين يصحو من حلمه يصرخ في وجه زوجته.. «هما ولاد الكلب دول يا نميرة كانت عندهم حسنات من أصله».
ومن ثم تفكك طاقة الحلم الترسيمات والأدغال التقليدية للشخوص، وتمنحهم خيالاً مؤثراً، ولحظات خاصة من النشوة والسمو النفسي على واقعهم المادي، فصدمة الخبرة الدينية لدى الشيخ حامد تحولها طاقة الحلم إلى فعل تطهير، يصطدم في مرآته بحيواته الهاربة ونواقصه الدفينة. وبآليات هذه الطاقة نفسها يتحول مشهد موت زوجته «نميرة» الانسانة البسيطة العادية، ولحظة دفنها في آخر الرواية إلى محفة روحية، تحلِّق في أجوائها وكأنها احدى القديسات. وفي تلك اللحظة نفسها تحرك طاقة الحلم آلية التذكر، فيخايل الشيخ حامد في ظلال موت «نميرة» طيف أمه «عروسه» وكأن الموت طاقة أخرى للتفتح على الحياة.. تجسد الرواية هذا المشهد في نجوى حلمية على هذا النحو.. «قالت نميرة إنها رأت كوكباً في قلب السماء ليلة وفاة عروسه راح يدور ويدور حول البرية، يغيب ثم يظهر ثانية، واختفى قبل طلوع الفجر».
إن الجوع يبرز في الرواية كـ«تيمة» أساسية وفارقة، بل محرضة أحياناً على التمرد ضد المفهوم الفارغ والهزلي للحكاية أو الحدوتة، بل ضد مفهوم الشبع نفسه، والحلم المتواتر فيه. فالشبع كما تصوره الرواية ـ حالة مؤقتة طارئة سيعقبها جوع أشد، بخاصة في واقع يعيش معظم ناسه على حافة الرغيف ـ لكن هل يمكن أن يندرج هذا النص ضمن ما يمكن أن أسميه «كتابة الجوع» وفي ظل فانتازيا الجوع والشبع بايقاعاتها اللدنة، الساخرة والمباغتة التي تلون سياقات السرد، ومسارات الحوار، وتشكل ـ إلى حد كبير ـ قسمات وملامح الشخوص، وصراعاتهم مع بعضهم بعضاً، أو مع واقعهم الذي أدمنوا عطبه وحلكته.. أتصور أن الرواية تقع في معظم فصولها على قدر من تخوم هذه الكتابة.. فعلى الرغم من أنها ركزت على الشبع كمظهر فيزيقي نقيض للجوع، إلا أنها استطاعت أن تحقق من خلال أمثولات التشابه في بنية المشاهد والرؤى والحالات صيرورة روائية مسكونة بشهوة أعلى مما هو أرضي أو حسي في البشر والناس والأشياء.