الخميس، 26 فبراير 2009

هذا غلاف رواية الكاتب المصري
المبدع وحيد الطويلة,وصدرت عن دار الدار التي يشرف عليها ويديرها الروائي المبدع مكاوي سعيد. صدرت الرواية في نهاية عام 2008, وقام وحيد بكتابتها في تونس, علي عدد من مقاهيهها, وهي الأماكن المفضلة لدي وحيد للكتابة والإبداع. وهذا الملف أحتفاء بها, وبصاحبها, ويصدر ضمن ملف يوالي "مقهي عائم" نشره احتفاء بوحيد وأدبه.



أحمر خفيف أم أحمر ناري


وحيد الطويلة في روايته المدهشة:
.. أحمر خفيف أم أحمر ناري !!
محــــــمد بغــــــدادي
يقتحم الكاتب الروائي وحيد الطويلة ساحة الرواية بقلب ميت ، وجرأة ( الفتوات) أولاد البلد ، فلو أمعنا النظر في تفاصيل روايته البديعة " أحمر خفيف " ، سنجد أنفسنا داخل أحداث سيرة شعبية بكل خصائصها وملامحها وتفاصيلها ، فبعد أن قدم لنا وحيد الطويلة مجموعتين قصصيتين " خلف النهايات بقليل " ، و" كما يليق برجل قصير " ، أتبعهما بروايته الأولي " ألعاب الهوى " ، وها نحن أمام روايته الثانية " أحمر خفيف " الصادمة ، التي يبدأها بـ : " النعش على باب المستشفي ، والملائكة أيضا ، في انتظار ساعته ، وهو كما هو ، رابض في السرير نفسه ، بين الحياة والموت " .وهذا الرابض في السرير هو" محروس " بطل الرواية،الحاضر الغائب طوال هذا النص المرهق ، بعالمه الغرائبي ، وأبطاله الشعبين المسكونين بالطيبة والشر ، والفقر والغني ، والدين والخرافة ، والجنس والرغبة ، واللذة والتوحش ، وكأنك داخل عالم أسطوري ملحمي ، أو كأنك داخل" سيرة بني هلال " ذاتها ، حتى المعركة التي يبدأ بها (محروس/أو وحيد) أحداث روايته ، تكاد تكون معركة بين( أبو زيد الهلالي) وملك (الزغابة في تونس) ، بنفس إيقاعها السريع ، وتفاصيل العراك الشرس ، من الكر والفر ، والطعن والرمي ، كمبارزة حامية الوطيس ، والتي تنتهي بطيران كف محروس في الهواء ، كما كان يفعل أبو زيد بغرمائه تماماً،عندما يُطيِّر رؤوسهم وأيديهم وآذانهم في الهواء، بحد سيفه البتارفي معاركه الشهيرة.ولكن هذا البطل الذي يظل راقدا على سريره في المستشفي ، تدور كل أحداث الرواية الصاخبة من حوله ، وحوله أيضا ، وكأنه محور الكون ، فهو بطل أسطوري ، حتى وهو في النزع الأخير، بين الحياة والموت ، وقد توقفت الحياة من أجله ، حيث تدور كل أحداث الرواية في تلك المسافة الفاصلة بين الموت والحياة ، وتقف بين الخيال والواقع ، وفي هذا البرزخ الضيق تتألق واقعية وحيد الطويلة السحرية ، والتفكيك الذي يكسِّر العظام ، ويفتت العضلات والمشاعر، هذا التفكيك الذي أعتقد عن يقين أن وحيد الطويلة بذل من الجهد في بنائه على هذا النحو المحكم ، أضعاف الجهد الذي سيبذله القارئ في لملمت أشلاء هذا النص الملتبس في جنسه الأدبي : إن كان نصا حداثيا ، أم نصا موغلا في القدم ، قدم النصوص الشعبية الشفاهية ذاتها ، والتي لها نفس خصائصه من حيث السياق السردي ذو الخيوط المتشابكة والمتشعبة ، فهو يخرج من حكاية ليدخل في الأخرى ، وكأنك داخل حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة ، ثم يعود لحكايته الأولي ليخرج منها من جديد ، ليدخل في حكاية ثالثة ، وهكذا يأخذنا " الطويلة" في تلافيف متاهة روايته الدامية ، وكأن خيوطها الدرامية سعف نخيل مضفر بعناية ، طبقات فوق طبقات ، فما أن يختفي خيط تحت الآخر حتى يعود ليظهر من جديد ، ليخفي تحته خيط ثالث ، وهكذا يمضي النص بين لحمة وسدى ، ولكنك بعد أن تنتهي منه وتبتعد عنه قليلا ، وتتأمله على مهل ، ستكتشف أنه كامل البناء ، كما لو أنه تحفة شعبية أتقنت تضفيرها تلك الأصابع المصرية المرهفة ، التي تصوغ من سعف النخيل أشكالا شعبية رائعة الجمال في صبيحة ( أحد السعف ) وعشية ( سبت النور).ومحروس الذي لا ندرك طوال الرواية هل هو في صحوة الموت،أم غفوة الحياة ، نحته " الطويلة " من أبطال التراجيديات الكلاسيكية القديمة ، فهو مثله مثل أي بطل تراجيدي ، يقتله في نهاية الأمر، أو بداية الرواية ، واحد من حثالة البشر ، وليس واحد من النبلاء ، أو عِلية القوم ، أو خصم عنيد من كبار البلد ، يقتله قاتل مأجور، في تحد سافر وغليظ ، إذا يطالبه بأن يقول : " قول أنا مره .. وأنا مش حطخك يا محروس " ، وكأنه يريد أن يقتل خوفه أولاً ، قبل أن يقتل محروس ، يريد أن يسقط عنه الهيبة والبطولة والنخوة،التي تميز بها عن كل أبناء الوادي،يريد أن يقتله ذليلا مهاناً . ولكن محروس يظل يصرخ طوال الرواية : "والله ماحسيبك يا عبد المقصود الكلب".وفي انتظار الموت أو الحياة ، يظل أهل الوادي يحيطون بالجسد المسجي ، يفترشون ساحة المستشفي وما حولها ، فهم : " كما هم في أماكنهم مزروعين من أول يوم .. أهل الوادي ، كأنما طرحتهم الأرض ، بجلابيبهم الصوف العتيقة ، متلاصقين كتفاً بكتف ، متدافعين جنب بعضهم ، داخل بعضهم ، يتماوجون خفيفاً بحركة واحدة دون قصد " .. ولو تأملنا هذا المشهد الذي يظل المؤلف يضمره طوال الرواية ، سنجد أن هذه هي اللحظة الفارقة في حياة كل أهل الوادي ، فكل شخوص الرواية منذ أن أصيب محروس ، وطارت يده ، في انتظار المُخَلِصْ ، فهو الحكيم العادل ، والرحيم الشجاع ، والكبير العطوف ، وهو الوحيد الذي لا يُقدِم على عمل بحسابات المكسب والخسارة ، فهو مندفع بفطرة لا تلين في اتجاه العدل ، ومنطلق بلا هوادة لمقاتلة الظلم .. لذلك ألتف الناس من حوله في انتظار عودته للحياة ، أو ذهاب الموت عنه ، ومن هنا بدأ وحيد الطويلة الذي تحول إلي واحد من أبطال الرواية ، وليس راويا لأحداثها ، بدأ يتصيد شخوص روايته الواحد تلو الأخر، ليضع الجميع في لحظة مكاشفة ، أما وأن محروس على وشك الرحيل ، فعلينا جميعا أن نعترف ، ومن هنا بدأ الطويلة يلتقط خيوط الحكايات الشعبية ، بعد أن أقتنص اللحظة الحاسمة ، ووضع أصبعه على نقطة الهجوم.فالدكتور تفضحه يداه المرتعشة بحقنة الهواء :" حرق قلبك السنين اللي فاتت كلها .وأنت حتحرق قلب مين عليه ؟تحرق قلب بلد بحلها،وتبرد نارك منهم ومنه "والقاتل المأجور :" .. أقتل محروس لأنه هو الذي مرغ سمعة عزبتنا في الوحل وسيرتنا على كل لسان لكنه كبير الوادي والمنطقة ، وحياة الناس مربوطة به . لم أقتل إلا الجرابيع والقتلة ، لم أقتل من قبل أحد من السادة ، أول مرة أقتل بدون مقابل ".أما حياة الناس المربوطة بمحروس ، فهي حياة أهل الوادي ، أخوته وزوجاتهم وأبناؤهم ، وكل واحد فيهم حمل دفتره وجلس بجوار محروس ، وكأنه في انتظار لحظة الحساب ، ولكن المؤلف لم يمهلهم حتى تعود الحياة إلي محروس ، أو يذهب إليه الموت ، فراح يفتش في دفاترهم ، وفتح أوراقهم جميعا ، وصدمهم وصدمنا بحقيقتهم أجمعين ، لنكتشف في النهاية أن الأحمر لم يكن أبداً خفيفا ، بل كان داكنا وداميا.فهذا العناني الذي انقطعت عنه الريح يومين ، وأصبح على عتبات اليوم الثالث ، لا يريد أن لأحد أن يرث عنه السر، رغم أن السر سيغادره حتما في اليوم الثالث ، فيبحث بخبث الفلاح اللئيم ، أو الروائي الخبيث ، عن أضعف الحلقات ليورثه السر، فيقع اختياره بعد رحلة البحث والتمحيص ، على محروس الذي أوشك على مغادرة الدنيا ، أو نشأت المنزوي في أطراف القرية ، يطارده عار أمه غزلان ، التي سمع سكان الوادي كله صراخها وهي تتأود تحت وطأة آلة أبو العشم الهائلة .والفناجيلي هائم أو لابد في جلد الأرض ، أمام باب الدار ، يدق الأوتاد ،وينصب الشباك في انتظار ملك الموت ، وملك الموت لا يأتي ، فيمضي حاملا كفنه على كتفه منتظرا قدومه بين لحظة وأخري .أما عبد المقصود لم يقنع بكل ما ورثه عن أبيه من مال ، فقرر أن يستولي على كل شيء عنوةً ، فاشتري كل المناصب ، والذمم والضمائر ، وأفسد في الأرض حتى قرر أن يقطع الماء عن الوادي ، ليكشف ظهر محروس أمام الدنيا ، ليغرقه ومن معه في العطش ، وأصر على أن يجلد المرأة المسكينة وهي عارية تمام ، وهي تصرخ : " أبويا مات في أرضك ، وجوزي كمان " ، وعندما تستغيث بمحروس يذهب لنجدتها ، ولكن عبد المقصود يستأجر قاتلا ليتخلص من محروس إلي الأبد .إنها كائنات دموية متوحشة ، أستخلصها الطويلة من بين أنياب زمان لا يرحم ، حتى ناصر ابن شقيق محروس الذي احترق أبوه وأعمامه ، يقلد محروس في كل شيء ، كلما دخلوا عليه وجدوه مرتديا جلباب عمه ، ويقلده في كل شيء ، إلي أن أطلقها محروس أمام الجميع : "ناصر هو راجل الوادي اللي حيصونه من بعدي " . ولكنه يتحول إلي وحش كاسر ، وظالم عاتي من جبابرة الأرض ، لم يترك أنثي إلا وأتاها عنوة وغصبا ، سرق كل شيء وأي شيء ، حتى فتكت به الناس ومزقته في مشهد آخر من مشاهد الأحمر القاني ، ورموه بجوار جثة الصبي ليشفوا غليل أمه وغليلهم . القاتل والمقتول في نفس واحد ، ونعش واحد ، وبعد أن تلقي جثة الصبي التكريم اللائق بشهم شجاع ، كشهيد للواجب والمروءة ، وتنال جثة القاتل ما تستحقه من تحقير وازدراء ، لا يفوت " وحيد الطويلة " المراوغ أن ينتزع اليقين من صدر المعتقد السائد ، وبخبث الروائي المكير يأتي صبي صغير من آخر المشهد لينادي في الجميع : " والله العظيم اللي دفنتوه الأول ده ناصر مش الواد الغلبان !! " .حتى غزلان التي " لا تتغنج قاصدة ، ولكن أشياؤها تنفرط منها في كل اتجاه " ،والتي شقت جلبابها إلي نصفين ،وصرخت في وجه شيخ الخفر الذي غافلها ومد يده على فتحة صدرها ، قائلة " ارتحت يا حكومة .. " ، ذلك الصدر الذي قال أبو العشم عنه جملته التي ظلت ترن في قلبها وقلب الوادي: " الحليب نشف في بزك من زمان ، لكنه مرعرع في كل مكان" ، حتى هذه الأنثى التي تبدو بريئة مغلوبة على أمرها ، يفتح الكاتب دفاترها أو يفضح مضاجعها ، دون أن يقيم أي اعتبار لمقولة صلاح عبد الصبور الشهيرة في الأميرة تنتظر : " وغد من يحكي عن مضجعه " ، وفيما محروس يصارع الموت على حافة الحياة ، تحكي غزلان أو يفضحها الراوي ، فنكتشف أن عشيقها الصياد قد قتل( دياب العُكش ) زوجـها الأول ، الذي أقتنصها ( خلاصة حق ) من أمها المدينة له ببعض الأموال ، ودفنته في غرفتها تحت السرير ، " وناما معا فوق قبره ليلتها وباقي الليالي " . إنه عالم متوحش ، ونار جنس متقدة في أجساد ينشب فيها الشبق أظافره بقسوة .أما ريفو أو عزت حركات ، فهو لم ينجو من تسجيل اعترافاته كاملةً ، أمام وحيد الطويلة ، في جلسة تاريخية ، على إحدى المقاهي ، العامرة بعازفي الربابة ورواة السير الشعبية ، في سياق الروايات المتواترة في القرية المصرية عمن عاقروا معاشرة المعيز والكلاب والحمير، فهو عاشق المؤخرات والممرضات وزوجته والحمير، يروي حكايته على حواف سرير محروس الذي ينادي بين الحين والحين : " هو ريفو ما جاش يا ولاد ؟ " .وحين تأتي لحظة المكاشفة والتطهر لعزيزة العمشة ، يستعير الكاتب صوتها ، ليعلن عن الشاعر المختبئ بداخله ، خلف سردية روايته الدامية ، فيُضَّمنْ مواويل العديد حنينه إلي الشعر،.... وتعض هي شفتها السفلى وتغمز لفرج ، الذي سألها إن كانت هنية سخنة أم لا ؟ ، لتقول له : " ما أعرفش ، لكن اللي أنا متأكدة منه خالص إن أنا سخنة ... وملهلبة " .لم يتبقي لمحروس سوى ابنته وأيقونته وحجاب محبته " أنصاف " التي تربض عند قدميه اللتين تعبران حافة السرير، فبعد أن احترق أخوته الثلاثة وتركوا ثلاثة أولاد ، ريفو ، والفناجيلي ، وناصر ، وأبو الليل يشلح هدومه ، ويرقص عارياً وضحكته تشق السماء " أربع نسوان ، وأنا مش لاقي واحدة " .. لم يتبقى لمحروس غير أنصاف لتصرخ : " .. خد روحي وقوم بقي ، قوم كفاية كده .. قم لدارك .. قم فارساً أو مت كما أنت فارساً .. انتفض واخرج .. !!وسط كل هذا الانتظار الطويل ، يقطع وحيد الطويلة المسافات الممتدة من عزبة إسرائيل ، إلي وادي جلانطة ، منتظرا مع المنتظرين فارسهم النبيل ــ محروس ــ عله يصحو ، أو يهب من رقدته التي طالت .. ومحروس الصامت ، صمت الموت يملأ الدنيا ضجيجاً صاخباً ، وحوله يتهافت الجميع ، تصحو مواجعهم ، يبوحون من فرط الألم ، بمكنون أسرارهم ، لو ألمَّ بمحروس مكروه ماذا يفعلون ؟؟ ، وناصر يمرق في السماء ، وأبوالليل بصوت عالٍ يصيح : " ... طول ما محروس عايش ، كل واحد يقدر يحلم على كيفه " .... والجميع تسمروا في أماكنهم ، والنعش لم يكن أمام المستشفي ، والملائكة تفرقت ....
فتذكرت على الفور، وأنا أطوي الصفحة الأخيرة من هذه الرواية المدهشة ، المقطع الأخير من قصيدة شاعرنا الكبير عبد الرحمن الأبنودي الرائعة " صمت الجرس " ، الذي يشبه إلي حد كبير صمت محروس ، إذ يقول الأبنودي :
يا صاحب الوجه الجميل أنت مازلت هناك يا وخزة الأشواق وأنا حملت الحمل لك جيت لك ، وبأقل القليل اللي فضل من ريح وفصل جفاف طويل أمتى تهب من الرقاد على النجيل تنفض غبار الأرض وتعتلي الفرس زمان بيطرح في خطوط كف البخيل وأنت ما دقيت الجرس ولا دست بحوافر حصانك ع الحرس ولا ندهت على العباد ولا خلعت الأرض في هدير النزول.... لسه ما طابلكش رنين الآه***
ويبدو أن محروس لم يستعذب بعد رنين آهات أهل الوادي ، ولم تطربه كل هذه الآلام ، وكل هذه الدماء الحمراء الداكنة ، التي أراقها وحيد الطويلة على جنبات سريره .

وحيد الطويلة: تجدد الرواية المصرية


وحيد الطويلة: تجدّد الرواية المصريّة
محمد خير
مثل حدوتة من ألف ليلة، أغنية ريفية، موّال واقعي، صاغ وحيد الطويلة روايته «أحمر خفيف» مزيجاً من أشكال الحكي السهلة والصعبة. رواية متعددة المستويات، غزيرة الأبطال، متفرعة الحكايات، مسلية وحزينة لا تخلو من الأمل. ووسط كل ذلك، لم ينس أن ينسج لغة الحكي من شعر المجاز الشعبي وبراعم اللغة: «حظ العويل عويل، وهو حظه أسود من يومه، أنجبه أبوه بالعافية في آخر رمية زهر، من امرأة فاتها الزهر، في زمن يمشي للخلف، لكنه يقطر أنفة ويزيد، يبرق في ليالي المآتم والأفراح، والدنيا واسعة وإن ضاقت».السطور السابقة من حدوتة الشيخ فرج الذي كان أبوه عبداً أعتقه محروس. والأخير هو بطل الرواية، لكنّه بطل لا يغادر فراش المرض، يترنح في غيبوبته منادياً على أرواح الراحلين والبعيدين، لا يموت ولا يطيب، والأهل يملأون طرق المستشفى، والنعش على الباب لا يمتلئ ولا يتزحزح، والطبيب قاتل متخفٍّ، يتحيّن الفرصة لقتل المريض النائم «لكنه سيموت، سيموت، وروحه الآن حتماً بين السقف والشباك (..) اتركه يموت». يحاور الطبيب نفسه ويهتز في يده المحقن القاتل، يكاد ينطق السؤال الهاملتي الشهير: أيكون «قاتلاً» أو لا يكون؟ ذلك أنّ «موته بيدك غير موته ربانياً».حول مستشفى المريض يتوقف الحال. الناس في انتظار ما سيجري، لكن لا شيء يحدث والبشر حكايات هائمة: إنصاف، عزيزة، أبو الليل، الفناجيلي، العناني، عبد المقصود، غزلان وغيرهم من شخوص تنبض بالحياة على حواف الأسطورة الشعبية، حواديتهم تتداخل في حنكة روائية لا تكتفي باندفاع السرد المتوالي، تزيّن الرواية بإسقاطات واقعية لا تنتهي، القرية المجاورة عدوانية تحاول انتزاع زعامة المنطقة، نكاية فيها أطلق عليها الفلاحون اسم «عزبة إسرائيل» ومنها جاء القاتل المأجور. محاولة قتل محروس ليست مسألة ثأر فحسب، ولا أموال ولا تنافس، القتل أكبر من هذا كلّه. والكل أكبر من مجموع أجزائه، وإخوة محروس يحترقون جميعاً في ليلة غفلة، يتزوج نسوتهم الثلاث، لكن «العيال» أصبحوا الآن بلا أب، بينما الموت والملائكة والشياطين والسحر جميعها كائنات لها قوة الواقع، ووضوح الشمس.في ظل مشهد روائي مشغول بعشوائيات المدينة، تأتي «أحمر خفيف» من قلب الريف عملاً بديعاً ومحكماً وتجربة تحمل شيئاً من التنوّع والغنى إلى المشهد الروائي المصري.

كائنات وحيد الطويلة

كائنات وحيد الطويلة
عزت القمحاوي
وحيد الطويلة، الذي يعود إلى البيت أحياناً، معروف في المغرب والمشرق بـ«رئيس رابطة المقاهي العربية» وقد حاز المنصب بانتخابات مزورة كسائر انتخابات العالم الثالث، لكنه - للأمانة- جدير بالمنصب؛ فهو يعرف شعبه فرداً فرداً، ويستطيع تمييز المعسل التونسي من المصري بسهولة بالغة.
يكتب وحيد ويقرأ ويدخن الشيشة في المقاهي، ومؤخراً أصبح في مقدوره أيضاً أن يجري اتصالاته ويطمئن على سائر رعاياه.
وعلى الرغم من أن مدرسة الكتابة في المقهى عريقة عراقة الإبداع نفسه، أو عراقة المقاهي، لنقل، فإنها تظل عادة مدهشة بالنسبة لمن يحبون الاختلاء بكائناتهم أثناء الكتابة.
والكتابة في هذا لا تشبه إلا الحب؛ فالبعض يكثل وجود الشهود بعضاً من متعته، والبعض يفضل الانطواء على حبه. وكلا النوعين ينتج شخصياته؛ فثمرات الحب الصاخب، من الشخصيات المكتوبة في المقاهي صاخبة مثل أبطال هيمنجواي، وقد كان إرنست عميداً لمقاهي وبارات أوروبا وأميركا وكوبا، قبل وحيد الطويلة بزمان، ولم تكن الكتابة تحلو له إلا وسط الضجيج، لكنه كان يختلف عن وحيد في كونه يلتقط شخصياته ممن حوله في مكان إقامته، بينما يحمل الطويلة أينما حل، زوادته من شخصياته التي نطت فوق أمتعته عندما خرج للمرة الأولى من قريته بالشمال المصري إلى القاهرة، ولم تغادره في مقاهي تونس أو الدار البيضاء، وأخيراً حملها معه إلى قطر؛ وافترشت معه مقاهي سوق واقف، وضيقت عليه الخناق من مقهى لمقهى حتى انتهى من كتابتها في روايته الجديدة «أحمر خفيف» التي أرسل بها من هناك إلى دار «الدار» بالقاهرة.
لو أن أحداً من المجاورين لوحيد في مقاهي سوق واقف رأى هؤلاء المرافقين له لولى منهم فراراً. أما من يقرأ الرواية فسوف يعرف لماذا يتمكن وحيد من كتابتهم في المقهى؛ بل لماذا لا يغامر بالخلوة مع هذه الشخصيات المليئة بالصخب والعنف والبهجة أيضاً.
تبدأ الرواية وتنتهي بمشهد محروس المتمدد على سرير في مستشفى بالمدينة، من دون أن يتمكن الموت من الاقتراب منه. وبين إغفاءة وإفاقة ينادي على الأموات في بداية الرواية، فيظنونه قريباً من الموت، لكنه في الختام يتحول إلى النداء على الأحياء المتحلقين حول سريره!
الشخصية بحد ذاتها نموذج معتاد من أبناء الليل في القرى، يقابل الفتوة المديني عند نجيب محفوظ، ولا تستطيع عائلة أن تعيش مستورة ومهابة من دون واحد من هؤلاء، إن لم يكن من دمها، فمن المستأجرين أو المؤلفة قلوبهم بالصداقة والهدايا وعلاقات النسب، والفتوات درجات، منهم المتخصص في القتل وهو الأرقى غالباً ومنهم من يحرق أو يغرق أو يحش الزرع، ومنهم الأدنى منزلة وأخلاقاً: من يسمم البهائم.
محروس من مجرمي الصف الأول، وقد جعل وحيد من احتضاره أسطورة تذكرنا بقصة «اجمل رجل غريق في العالم» لجارسيا ماركيز.
لكن قوس الرواية يتسع لأساطير حياة محروس، الذي ظل يصارع قاتله حتى بعد أن انطلقت رصاصة أطارت كفه في الهواء، ليعيش ما تبقى من حياته بكف واحدة، مهاباً كما كان بيدين سلمتين.
يهيمن محروس على فضاء الرواية كقصة إطار تتفرع منها قصص وأساطير الشخصيات الأخرى: عزت أخذه حب المدينة ونسائها، وتحديدا حب ممرضات مستشفياتها، الذي لم يمنحه متعة الاستيهام والتشهي فقط، بل جعله خبيراً في كتابة الوصفات الطبية، التي منحته في النهاية لقب دكتور، ومعه صديقه الفناجيلي الذي يحمل له حقيبته ويدور معه على المرضى.
الفناجيلي أخطأه الموت وليداً، فراح يتحداه حتى وجدوه مرة لابساً كفنه، واقفاً أمام المقبرة يصرخ فيه: إن كنت راجل اطلع لي!
كثيرة هي التفاصيل أو بالأحرى الأساطير التي تولد من حياة هؤلاء البسطاء. وعلى الرغم من كل المقولات التي تؤكد أن الرواية فن مديني، تظل القرى تعطي رواياتها المتميزة.
وبعد تراكم كبير من روايات القرية في مصر (زينب التي يؤرخ بها بداية للرواية المصرية رواية قرية) استطاع وحيد الطويلة أن يجد لنفسه مكاناً. واتخذ من العجائبية والفكاهة ساقين تقف عليهما كتابته، في روايته السابقة «ألعاب الهوى» والجديدة «أحمر خفيف» التي أنهاها بقائمة المقاهي التي كتبت فيها وأسماء أصحابها، في تونس وقطر!


الرجل المحتضر تسكنه حكايات المشهد المصري

وحيد الطويلة في رواية «أحمر خفيف» ... الرجل المحتضر تسكنه حكايات المشهد المصري
يسري عبدالله
ثمة جسد ممدد فوق سرير المستشفى، يغالب الموت ويعانده، رافضاً أن يستسلم له. هذا ما نلمحه في رواية «أحمر خفيف» للكاتب المصري وحيد الطويلة، الصادرة حديثاً عن «الدار للنشر» في القاهرة. فعبر هذا الجسد الملقى على السرير، نرى العالم المتغير، الموّار بالتحولات، المسكون بالتناقضات المختلفة، وبالأشخاص المتصارعين، فالكاتب يثبت لنا اللحظة الخاصة بالجسد، مع أن إضاءات الشخصية المركزية (محروس) المصورة بعناية فائقة، تصنع حركتها الخاصة، فيما الشخوص الملتحقين بها تتناسل حكاياتهم مشيرة إليها، أو معبرة عن عوالم أخرى تتقاطع مع عالمها، ليحكي لنا السارد الرئيس عن شخوص مهمشين، يعيشون على الحافة (الشيخ فرج/ الفناجيلي/ عزت ريفو/ عزيزة العمشا...) يغالبون واقعهم الرديء وتصبح حركتهم داخل النص نتاجاً للضرورة الحياتية المعاشة لا المصادفات القدرية المفتعلة، لنصبح - وبامتياز - أمام رواية تقف عبر مسافة من الواقع، وكأنها المرآة الموضوعة في زاوية معينة، حيث لا انعكاس ميكانيكياً للراهن المعيش، ولكن ثمة استجابة جمالية تعبر عنه. عبر هذا الفهم تؤسس رواية وحيد الطويلة منطقها الجمالي الخاص، متكئة على تواشج دال ما بين الواقعي والمتخيل، والتقاط رهيف للحظات إنسانية ضافية يمتزج فيها الذاتي بالموضوعي، ويتجادل من خلالها الخاص مع العام.
يستهل الطويلة روايته بعبارة دالة: «النعش على باب المستشفى، والملائكة أيضاً». هذه الجملة هي واحدة من الجمل المركزية داخل النص، وتصير من ثم مفتتحاً ومفتاحاً في آن. اللافت أن هذه الجملة الواردة على لسان ما يعرف بالسارد الرئيس، تأتي أيضاً على لسان الكاتب في نهاية الرواية، إذ يعارضها قائلاً: «وحيد الطويلة: النعش ليس على باب المستشفى والملائكة تفرقت».
إذاً ثمة اتساع في الرؤية، يبرزه الاختلاف بين الجملتين/ الرؤيتين، فالسارد الرئيس يعلن ان النعش ما زال على باب المستشفى، بينما يعارضه الكاتب (المغاير في ماهيته عن السارد) معلناً أن النعش غادر باب المستشفى، وكأنها فسحة الأمل، والانفراجة الممكنة على رغم قسوة الواقع وشراسته.
في «أحمر خفيف» يسلم السرد بعضه إلى بعض، ولا يقدم الكاتب شخوصه دفعة واحدة، بل وفقاً للمسار السردي لنصه، فنرى حضورًا لشخصيات «عناني» ثم «عزت ريفو» ثم «الفناجيلي». وهكذا، ولكل من هؤلاء حكايته الخاصة، والمنجدلة مع حكايا الآخرين، والمسكونة بطابع ساخر، ما يسم الرواية ويمنحها خصوصية. ويتجلى هذا الحس الساخر في المواقف السردية داخل الرواية، مثل ذهاب «عزت ريفو» و»الفناجيلي» بالنعش إلى بيت «العناني». «حين رأته امرأة العناني صباحاً وهي تكنس أمام الباب، خرت مكانها، طلعت روحها ومقشتها في يدها. لم يعد النعش فارغاً، عاد بها، والعناني وضع المقشة في كفنها، كي تضرب بها عزت يوم القيامة». وتتكئ السخرية في «أحمر خفيف» أيضاًَ على آلية الرسم الدقيق للشخوص على يد الراوي، مثل التوصيفات الدالة التي يصنعها لشخصية «عزت ريفو» عاشق المؤخرات، والذي لا يفرق بين مؤخرة امرأة ، بطة، مكتنزة، أو أنثى حيوان داخل البلدة.
للراوي انحيازاته الخاصة داخل «أحمر خفيف» وتتحدد وضعية الراوي هنا بصفته راوياً عليماً ببواطن الأمور، وهو لا يكتفي بمعرفة كل شيء فحسب، بل يتدخل أحياناً ليدلي بوجهة نظره، أو ليعقب على الحدث السردي. بدت نهايات الفصول السردية في الرواية مفعمة بالدلالة، ينهيها الكاتب بجملة سردية مدهشة، تشي بالمآل الذي انتهت إليه حال شخصيته الروائية محور الحكي داخل الفصل. فمثلاً في الفصل السابع، يتحدث الكاتب عن «الفناجيلي» الذي يخشى الموت، ولذا قرر أن يبادر بالمواجهة ويطارده، ومن ثم عندما يبحث عنه «عزت ريفو» يجده في المقابر، ينظر بعينين زائغتين تشبه أعين «العسس»، باحثاً عن ذلك المسمى الموت.
تقف رواية «أحمر خفيف» في المسافة ما بين المتخيل والواقعي، إذ يمزج الطويلة الحلم بالواقع، لتأخذ الرواية أبعاداً جديدة، وتتشكل بنية عميقة تتخفى خلف الظلال الكثيفة التي تصنعها دلالات الأسماء سواء للشخوص أو الأمكنة المشار إليها. ويصير مثلاً - استخدام «ناصر»، الشخصية الروائية، «عزبة إسرائيل»، المكان الروائي، قادرين على استيلاد معان جديدة، تؤكدها قدرة الكاتب على تضفير السياسي باليومي في شكل دال. وهذا ما يتجلى مثلاً في مشهد البطانية التي لفت جسد الصبي المقتول ظلماً ودفاعاً عن شرف خالته، إذ كتب عليها عبارة «صنع في العراق».
يرسم الكاتب شخوصه بمهارة، واعياً قوى الشخصية الثلاث (الجسدية/ النفسية/ الاجتماعية) وهذا ما يبدو جلياً حين ننظر إلى شخصيتي «أبو الليل» و»عبدالمقصود»، مثلاً. فأبو الليل مسكون بحكمة المكان، وعبدالمقصود يمثل وجه السلطة القبيح، وهو ليس فقط بمثابة البطل الضد داخل النص، لكنه - على رغم الغياب وعدم الحضور المتواتر في الرواية - يظل محركاً لأحداث كثيرة داخلها.
وتتعدد التقنيات في «أحمر خفيف»، إذ يوظف الكاتب ما يمكن أن أسميه «لعبة التوازيات» بين مشاهد نصه المختلفة، ومن ذلك، مثلاً، التوازي بين مشهدي فك قيود المرأة العارية التي يجلدها «عبد المقصود» باشا بالكرباج، وابتعاد النعش قليلاً عن المستشفى، في إشارة دالة على إمكان مغالبة كل ما يكبل حرية الانسان وحياته: «النعش ليس على باب المستشفى، ومحروس ممدد في سريره، بوجه مرتاح، عليه النظرة نفسها التي عاد بها بعد أن فك قيد المرأة، كأنه أخذ حقه من الدنيا كلها، لا من عبد المقصود وحده».
يستهل الكاتب فصوله السردية بجملة مركزية مكتوبة ببنط مغاير - على مستوى شكل الكتابة - ثم يتم البناء عليها بعد ذلك، مثلما حدث في الفصل العاشر الذي يبدأ بهذه الجملة: «قاتل ومقتول في نَفَسْ واحد، في نعش واحد». ويوظف الكاتب ضمائر الحكي المختلفة داخل روايته، متراوحاً أحياناً بين ضميري المخاطب والغائب مثلما حصل في الفصل العاشر، الذي يستخدم في بدايته ضمير المخاطب، ويصبح الخطاب الروائي محمولاً إلى مروي له محدد «ناصر»، ومروياً عنه في آن.
تتنوع مستويات اللغة داخل «أحمر خفيف» ما بين الكلاسيكي السامق، والعامي المرتبط بالبيئة المحلية للنص، فضلاً عن وجود نزوع شعري يسم مقاطع كثيرة داخل الرواية. وتجدر الاشارة إلى صفاء اللغة وسلامتها عند وحيد الطويلة فضلاً عن استخدامه أحياناً تشبيهات بلاغية هي في جوهرها بنت «المكان» المشار إليه في الرواية». في سياق سردي فائرٍ وموّار، تأتي رواية «أحمر خفيف» تعبيراً عن خصوبة المشهد الروائي المصري في الوقت الراهن وعذوبة النص وخصوصيته في آن

يمضون في الزمن مؤرقين بأسئلة الوجود

فى رواية وحيد الطويلة "أحمر خفيف "
يمضون فى الزمن مؤرقين بأسئلة الوجود
فريد أبوسعدة
دائما ماتصبح الرواية الأولى، إذا ما كانت جيدة، تحديا لكاتبها، ينظر البعض إليه بإشفاق : هل يقع فى غرام نفسه فيكررما كتب وإن بأشكال جديدة، هل يكبو وهو يحاول مثل عداء كسر رقمه القياسى، فيقع فى ما دونه بكثير؟!
تنتاب هذه الأسئلة أصحاب النوايا الحسنة ، وأصحاب النوايا الشريرة، من النقاد و من أقرانه من "أهل الكار" .
أنا واحد من الذين تابعوا العداء وهم مشفقين عليه، آملين أن يتجاوز رقمه، ويؤكد مكانه ومكانته فى السباق الصعب.
" أحمر خفيف " هى الرواية الثانية لـ وحيد الطويلة بعد " ألعاب الهوى" ، وقد صدرت مؤخرا عن "الدار" للنشر والتوزيع بالقاهرة.
محروس "كبير الوادى" ينادى ، فى احتضاره المؤلم الطويل، على أحبائه الذين رحلوا، والذين يحيطون به ، ينده عليهم بأسمائهم ،على مرأى ومسمع من أهل الوادى، الذين أحاطوا بالمستشفى كالسوار، وزحموا الممرات والطرقات.
ما ان ينده على أحد حتى يستحضره الراوى ، فى قطع ووصل من المركز إلى الأطراف وبالعكس، فى حركة عبر الزمان والمكان صانعة (زووم) على المندوه فنجده شاخصا أمامنا حيا من لحم ودم
عبر هؤلاء المندوهين تمضى الرواية فى توازياتها وتقاطعاتها صانعة عالما بالغ الخصوصية، يدور بين قطبين ، كأنهما الخير والشر، هما محروس كبير الوادى، وعبد المقصود كبير عزبة اسرائيل.
عبد المقصود يريد أن يكسر هيبة وجلال محروس، يريد أن يكون زعيما أوحد على العزبة والوادى، ولأن الماء يأتى إلى الوادى الواطىء من العزبة العالية، يحبس الماء آملا أن يأتيه ويستجديه، لكن محروس يواجهه منفردا، و ينجح فى فرض ارادة الغلابة ويفتح الماء ، يهرب كبير العزبة، لكنه يغرى بخصمه قاتلا مأجورا، ظل يترصد لمحروس شهورا حتى استطاع أخيرا أن يصيبه، وينقلونه إلى المستشفى شاخصا بجلاله لا يحيا ولايموت ، شاخصا بين الدهشة والشفقة والإكبار، يدير عالم الرواية من مرقده الطويل، أمامه تجلس إنصاف، ابنته وطوطمه، الباقية بعد موت الأبناء من صلبه .
عدد كبير من الشخصيات جلهم من أسرة محروس، فبالإضافة إلى إنصاف ابنته هناك اخوته الثلاثة وأبناؤهم وزوجات هؤلاء وهؤلاء، وهناك عنانى بعالمه السرى، الحالم بوراثة دورمحروس دون مواجهة، شخصيات محبة وأخرى مناوئه ، بعضها عارض كالبشارة وبعضها مقيم كالكوابيس .
الراوى متورط حتى ليمكن اعتباره شخصية من شخصيات الرواية، فبالرغم من كونه راو عليم بأبطاله ، إلا انه يتعاطف و يقدر بعضها عن بعض أو يحبها أكثر من غيرها إذ نجده غير مرتاح إلى القدر الذى خصّ به "عزت" فى الرواية فيعود ليحكى فصلا اضافيا بعنوان (تذكير) قائلا: كان لابد لعزت من تكملة، ليس من المعقول أن تطوى صفحته هكذا الخ .ص181
بل و يؤكد حضوره فى فصل بعنوان " هذا هو المشهد الأخير مع بعض الاثارة من عندى" ص253
وعندما يصنع الكاتب مايسميه "تتر الرواية" مقتبسا من أقوال الشخصيات جملا دالة عليها من جهة، ومؤشرة على الأحداث والوقائع من جهة أخرى، لاينسى نفسه كراو فيضع لنفسه جملا هو الآخر، بل ويقلب جملة مثبتة من جمله كراو ويقولها هو (وحيد الطويلة) منفية، موحدا بينه وبين الراوى.
الرواية تنتصر للثقافة الشفاهية، وتكاد تكون توثيقا وتدوينا للتعبيرالشفوى، الذى يتعرض أكثر فأكثر للتآكل ، تحت مسميات الحداثة والعولمة ، مما يؤدى إلى فقدان الذاكرة الشفوية، وفقدان معارف وابتكارات الجماعة معها، تحت التنميط القاسى للعولمة، الأمر الذى يهدد بطمس الهوية وتلاشيها .
يكتب وحيد الطويلة روايته مثل النحات ، فالعالم يسكنه ويحيط به، تماما كالكتلة التى تواجه النحات، وما عليه مثله إلا الحذف، لتنهض أمام القارىء بنية هى من العالم ومغايرة له فى آن .
يرسم وحيد شخصياته من خلال ما ابتكرته المخيلة الشعبية عبر تاريخها، من الأساطير والسحر والعرافة ، من التهكم اللازع والحكمة البصيرة ، من الصور التى تقبع فى والجدان الشعبى عن البطل وما ينبغى له من صفات ، من الأسرار التى تكتنف التدين الشعبى وتدنو بها من الشعر ،و لغته المسبوكة من جسدانية الفوتوغرافيا وتحليق المجاز ترشح بحميمية العدودة والمثل والموال، ووتتنوع باختلاف االروىء وتباين المصائر.
تنهض الحكاية وكأنها صوت الجماعة، ويصبح الراوى، فى أحد مستوياتها، ليس إلا مندوب عن الجماعة فى تقديمها للغير، وفى مستويات آخرى، يبدو ناسجا عبر طرائق المخيلة الجماعية ، لأساطير مبتكرة يحرث بها السرد، ويكثف بها الحدث ويرفعه إلى فضاء الشعرية.
حالة رائقة من الشجن الأسيف، معلقة كسحابة فى سقف النص، تراوح فى فضائه كجثة أب بطريركى هائل لاهى حية ولا هى تموت، تحتها تمور حياة فائرة ضاجة، حيث تمضى الشخصيات، شبيهة بلغتها، مسلحة باسطورتها، إلى مصائرها فى ثنائيات متوازية ومتقاطعة فى آن
(محروس / إنصاف ، محروس / عبد المقصود)، (أبوالليل / فرج، أبوالليل / العنانى)، (عزت/ الفناجيلى ، عزت / فرج) حياة فائرة يرث فيها الأبناء عن الآباء أكتافهم العريضة، وآلاتهم الهائلة، وولعهم القاسى بالنساء، وحيث يرشح الفضاء بمراودات مشتعلة بالرغبة هى
من الغيوم الأسيفة التى تحوم فى سماء النص وجوه مؤرقة ، مكلومة بأسئلة الوجود ، سؤال الموت (الفناجيلى) ، سؤال الكمال والحرية (أبو الليل/ فرج) ، سؤال الشرعية (العنانى) ، سؤال السلطة (عبد المقصود/ ناصر) هذه الأسئلة الشائكة لاتنى تظهر وتختفى فى عالم روائى يثمن الحياة، ويجعل من همومه الانتصار على الموت !
ومع أن هذه الأسئلة تمثل سدى ولحمة وعى الجماعة فى الرواية إلا أن سؤال السلطة يظل أكثر تأثيرا، لأنه سؤال الجماعة كلها لا سؤال الفرد الموجوع بأزمته ، وهو السؤال صانع التراجيديا ، صانع الحدث الرئيسى، الأمر الذى يغرى بتأويل اسطورة العنانى عن القطب الباطنى، ذلك الذى يظهر من حين إلى حين، يعطى الحكم (العهد والسر) لمن تتوافر فيه الصفات المؤهلة، عبرالكفاءة التى يظهرها الممنوح لتحمل الأمانة، ليس عبرالوراثة، وليس عبرالقوة، التى يوفرها الفساد لبطانته، كما فى عبد المقصود من عزبة اسرائيل، وناصر من الوادى ، خاصة وان ناصر كان فى يفاعته يقلد عمه محروس، الذى توسم فيه مع الآخرين أنيشب على طريقه ويصبح وريثه المعنوى .
يحتاج الأمر إلى مداخلة أخرى بالتأكيد ، لكن أهمية الإشارة تعود إلى دورها فى تحديد الزمن الروائى ، فهى مع اشارات حول عبد الناصر والتنظيم الطليعى وحرب اكتوبروغيرها كثير، تجعل الزمن ماثلا أمام القارىء ، بما يجعله مؤشرا على مصداقية وأهمية السؤال، الزمن الروائى أكثر مصداقية من المكان الذى يبدو أكثر تجريدا وأكثر تخييلا
يبرع وحيد الطويلة، للمرة الثانية وليست الأخيرة بكل تأكيد، فى صنع عالم من هذا الموزايك الانسانى ، عبر مزاوجة رفيعة بين الفوتوغرافيا والمجاز، عبر فنون من السخرية وبلاغة الجماعة ، ومن خلال حدس ايقاعى دقيق استطاع أن يقدم لنا أصحاب المواجيد، وهم يحملون أسئلتهم ، عبر توالى الظهوروالخفاء وكأنهم مندوبون عن الجماعة يتوالون فى الزمن مؤرقين بأسئلة الوجود.






أحمر خفيف

أحمر خفيف
عبير سلامة
اعتمد وحيد الطويلة في روايته الأولى(ألعاب الهوى) على مجاز "كبير العائلة" الحاضر بقوة في العالم الروائي، برغم وفاته، في مقابل ابنه "كبير الدار" الذي يستشعر قرب وفاته، فيغيب في جولات بين الحلم والواقع، لمراجعة تاريخه وحقيقة دوره في حاضر برية يرى نصفها من اللصوص والنصف الآخر يراود نفسه.
ويعود مجاز كبير العائلة في رواية (أحمر خفيف)، مرتكزا على لحظة الاحتضار، ليكشف، وبمعنى ما يؤطر، واقعا حيا نتنفسه يوميا، هرم العجز الجاثم على الوعي العام، كل فرد يفتقد شيئا ما، كل مفتقِد يعجز عن فعل ما، وكل عجز تُحال مواجهته لقوى غامضة أو تؤجل لزمن أشد غموضا.
"عيناه معلقتان بالسقف، كأنما يقرأ شريط حياته، يحركهما جانبا حتى نهايته، ثم يعود من الأول، كأنما يفرز الأحلام والحسرات ويقف منتصبا بينهما، وحين يفرغ من السطر الأخير، يغمضهما عميقا ويسلم قدميه في دعة لانصاف".
تشكل صورة محروس والنعش المنتظر في الفصل الأول إيقاعا مميزا للسرد، إيقاع مرثية أو عدّودة، وتوحي بأن البناء يعتمد على فكرة أن حياة المحتضر تمر أمام عينيه كشريط سينمائي، ومن هنا جاءت ضرورة "التيتر" الدلالي، أسماء المشاركين في إنتاج العمل التي توالت في النهاية مصحوبة بجمل مُعبرة، وكأنها لقطات مشاهد في نسخة إعلانية من فيلم، تليها نسخة توثيقية سريعة تتضمن أماكن تصوير/ كتابة العمل.
سوف تشحب فكرة الشريط السينمائي تدريجيا أمام المشاهد السردية المندفعة بقوتها الذاتية لا قوة وعي محروس كبير العائلة والقرية، الذي تعرض لمحاولة اغتيال بوازع من منافسه كبير عزبة إسرائيل المجاورة، وسوف تتراجع الشخصية نفسها، على الرغم من تصديرها وافتراض السرد قوتها، لأنها في الحقيقة لا تفعل شيئا عدا الحضور، ولا يوجد ما يبرر تعلق بقية الشخصيات بحضورها سوى العلاقة العاطفية.
تتقدم السرد شخصيات أخرى منحوتة بعناية أكبر، كشخصية الشيخ فرج الذي "يخطبُ في الناس ليُخطب، ليُشترى شراء العزيز، ليعوض شراء أبيه وجده، لينجب أولادا لا يُشار عليهم بالسواد"، وشخصية "أبو الليل" شقيق محروس المستحم بضوء النجوم، أملا في استشفاء سحري من مرضه المزمن.
"ليلهما واحد، فرج الطائر فوق الأرض بدون جناحين، الحالم بالبياض، الباحث عن وليفة ولو في آخر رمية، وأبو الليل بجذامه، يعرف أنه لن يجد وليفة، على الأقل وهو على قيد الحياة".
الشخصيتان معا من أجمل شخصيات الرواية، وقوتهما.. قوة الشخصية التي تعاني من نقص ما، والمستمدة ربما من قناعة شعبية(كل ذي عاهة جبار)، تحيط حضورهما بهالة سحرية توشك أن تحول العاهة إلى موتيف، نشعر به أيضا أمام شخصية عزيزة "العمشة" بعمق ظهورها المراوغ.
أكثر شخصيات الرواية- عدا محروس وابنته إنصاف- مثيرة للاهتمام، هناك شيء من الشؤم القدري يحيط بها، يكمل أبعاد عمقها الإنساني ويضفي عليها غموضا محببا، بخلاف غموض شخصية الطبيب المتردد في قتل محروس "بحقنة هواء"، فللوهلة الأولى يبدو صورة لواحد من الملائكة الضجرة التي طال انتظارها للروح العالقة، لكن حبكة السرد تقوض الصورة سريعا بدون أي توضيح لأسباب ضغينة الطبيب أو طبيعة علاقته بمحروس.
يواجه القارىء في (أحمر خفيف) خطوط حبكة غير تقليدية الطابع، تنظمها رؤية واقعية سوداء لمجتمع غامض بدائي التكوين والوعي والسلوك، قتل..انتقام.. مرض.. وجنس عدواني من كل نوع. قد يبدو هذا المجتمع معاصرا، لكن ذلك لا يكفي لتبرير اختيار اسم "إسرائيل" للقرية المنافسة، بخاصة عند النظر إلى هامشية حضور كبيريّ القريتين وسذاجة شكل الصراع بينهما.
الأهم من هذه التلميحات السياسية هو جرأة تركيب صورة العالم المتخيل، أو تمزيقها إذا أردنا الدقة، كأن يخترق صوت المؤلف على فترات صورة هذا العالم، مثل وجه مخرج سينمائي يمر على الشاشة بين زحام، وقد يجرب فيؤدي دورا ثانويا بانفعال زائد، كما حدث في التوقفات الوصفية المتكررة بالرواية، إضافة إلى الفقرات التي حملت بلا داع عنوان "تذكير".
الحياة الدرامية في الرواية مستمدة بالأساس من خطوط الحبكة الملتفة حول شخصيات أهل المحتضر وأصدقائه، العناني.. فرج.. أبو الليل.. عزت.. الفناجيلي، كل خيط منها يشتغل بوصفه الدافع السردي المحرك لحكايات مستقلة والمُعرّف لرواية متكاملة.
لا تقصد الروايات المعاصرة دائما إلى إنجاز وحدة في الأسلوب والموضوع عبر جمع عناصر مستقلة ومراكمتها من فصل إلى آخر، لكن روايتيّ (ألعاب الهوى) و (أحمر خفيف) تفعلان ذلك من خلال أنماط مجازات وموتيفات تحيط بموضوع ثابت.
والروايتان معا كافيتان لتقولا إن وحيد الطويلة يشق دربا روائيا مثيرا للاهتمام: دربا عفيا تشغله صراعات وجود وشهوات اكتمال، مؤنسا بطريقة سرد ولغة تستوعبان الأسلوب الشعبي في التفكير والتعبير باقتدار، ومشاغبا-أخيرا- بألوان من السخرية والنزق المسالم.

وحيد الطويلة .. انتظار الذي يأتي ولا يأتي.. وأهمية كيفية القول.

وحيد الطويلة.. انتظار الذي يأتي ولا يأتي..وأهمية كيفية القول
جورج حجا
رواية الكاتب المصري وحيد الطويلة "أحمر خفيف" تثير في القارىء -بعد المتعة الجمالية الاكيدة- افكارا واسئلة واجوبة قد لا تكون مباشرة.
الشخصية الرئيسية في الرواية اي "محروس" هو في حالة احتضار بعد اطلاق الرصاص على هذا الرجل "الجبار" والناس حوله ينتظرون ان ينهي ملاك الموت عمله الذي يبدو ان لا مفر منه.
الا ان الامر لا ينتهي ويبقون على انتظار ربما ذكرنا -مع اختلاف الموضوع وبعد الشبه انما من ناحية الانتظار شبه العبثي والصورة التي تقفز الى الذهن فقط- برائعة سامويل بيكيت "في انتظار جودو" او جودو الذي يأتي ولا يأتي.
الاسئلة كثيرة وكذلك الافكار. ومن الاجوبة الاساسية التي يبدو ان وحيد الطويلة يطرحها -او فلنقل الجواب الاساسي الوحيد- فكرة نستطيع ان نزعم اننا نستخلصها من امرين الاول هو بداية الرواية والثاني هو نهايتها. انها تكاد تقول كلاما ليس بالجديد وهو ان الحياة تستمر.. لكنها تقوله "بحدة" ممتعة ساخرة أليمة مضحكة مبكية.. كأنها الحياة.
وبطل الرواية يبدو احيانا كجبل وأحيانا مثل شجرة ضخمة باسقة يستظلها اخرون وتنبت بتأثر منها ودعمها شجيرات اخرى.. كما انها تستنزف غيرها من الشجيرات التي لم تستطع النمو كثيرا في ظلها. وهذه الشخصية تظهر لنا ايضا كأنها بلد ينتسب اليه كثيرون.. منهم من اعطاه بلده الحبيب هذا بسخاء ومنهم من يتهم بلده كما تتهم بلدان كثيرة ايضا بانها تشرب دماء اناسها وعرقهم ولا تكافئهم بما يكفي.
بين البداية والنهاية بدايات ونهايات عديدة وبدايات لم تصل الى نهاياتها. اشخاص وشخصيات ثانوية ومهمة. انه عالم كامل صغير كأنه نموذج لذلك الاكبر منه. منهم من يعيش في خجله او عقده او نقاء احلامه او ينغمس في ما يبدو "شذوذا" هو في النهاية خيط من النسيج العام يتعايش مع كل تلك الخيوط السالفة الذكر وتتعايش معه في نطاق الصورة الكبيرة .. وان تنافرت ألوان عديدة احيانا.
تبدأ الرواية باسلوب وحيد الطويلة المميز في عمله هذا و"بالوضع البشري" الذي يرسمه الكاتب لنا معلقا بين امرين يبدوان مثل "توأمين سياميين" هما الحقيقة والمجاز.
صدرت الرواية عن مؤسسة "الدار" للنشر في القاهرة بغلاف من تصميم يوسف ليمود وجاءت في 265 صفحة متوسطة القطع. المؤلف وهو سندباد سافر لسنوات كثيرة قال بطريقته الساخرة الموحية ان روايته كتبت في ستة مقاه في تونس ومقهيين اثنين في قطر.
واذا كانت الاجوبة والموضوعات الانسانية الاساسية متشابهة منذ بدء ذاكرة الانسان المعقدة المتسائلة المتفلسفة.. واذا صح اننا في الاعمال الادبية ذات القيمة نقيم اهمية للشكل الفني بقدر المحتوى الفكري بل بما يفوقه احيانا اذ ان المعاني كما قال نقاد عرب قدامى "ملقاة على جانبي الطريق" وان ما يميز عملا ما في المنزلة الاولى شكله الفني.. اذا صح ذلك كله فنحن لابد نسترجعه مستشهدين به ازاء عمل وحيد الطويلة.
هكذا تبدأ الرواية "النعش على باب المستشفى.. والملائكة ايضا.. وان تجولوا بسرعة في ردهاتها القذرة حين يشعرون بالملل في انتظار ساعته وان بددوا سأمهم احيانا بقبض روح او اثنين."
يضيف الكاتب واصفا هؤلاء الملائكة بسريالية غرائبية فيقول "راهم الفناجيلي ابن اخيه.. العين في العين.. وهم يبصون من ثقوب الابواب وان تخفوا في ملابس بيضاء كالاطباء واحيانا كالممرضات.
"وهو كما هو رابض في السرير نفسه بين الحياة والموت.. خيط يشده وخيط يرخيه.. ممدد دون ضعف.. لا اهة لا توجع.. وجهه محتفظ بالام عراكه الاخير.. السرير لم يفرغ بعد.. الطرقة لم تفرغ من اقاربه.. ولا الحوش..."
ومحروس سعى الى قتله قاتل مأجور لكنه طارده على رغم اصابته البليغة وكاد يقضي عليه. ويصور لنا الكاتب الاجواء التي اعقبت اطلاق النار على محروس فكأننا في حدث اسطوري يصف مصارع الابطال او جو غضب "الهي" مزلزل. ولوحيد الطويلة قدرة كبيرة على رسم اجواء كهذه.
يقول بعد ان حدثنا عن اطلاق النار على محروس واصابته "محروس نط من على ظهر الحمارة والحمارة انطلقت.. تنهب الارض كأن افعى تنهش بطنها تدب وترفع قدميها لاعلى كأنها تطير... انطلقت على الجسر والوادي بعيد.. لا دور في الطريق ولا مغيث.. الطيور التي انعقدت صوب الترعة انفرطت نحو الوادي.. والثعابين التي خرجت في الظهر الاحمر تسابقت لشقوقها والسحالي لجحورها وصوت اجنحة الحمام تصاعد باتفاق كأن السماء هبطت فجأة والناس في الغيطان مدوا اعناقهم."
وفي المستشفى تجمع محبون ومبغضون. الطبيب يتردد بين قسمه الطبي ورسالته الانسانية وبين رغبته في اعطاء المصاب حقنة تقضي عليه. وتنتهي الرواية على الصورة التالية التي تظهر فيها من تصويرية الكاتب الحية الهادرة صوتا وصورة واجواء تشبه اجواء الاساطير "ومحروس انتفض.. قطع الخيوط ورمى المحاليل.. اندفع في اتجاه دورة المياه.. خرطوم ماء كأنه خرطوم حنفيةالحريق.. قويا حتى خرجت الصراصير من مكامنها.. طويلا عفيا حتى خرجت الفئران من مخابئها.. والطبيب المذهول يرقب الموقف ويبحث بعينيه عن النعش. عدوا بسرعة جميعا دون اتفاق ايضا. الطبيب يصرخ. الفئران تتجه اليه.. في غير اتجاه يصرخ ويهرب والعناني في ذيله.
"الباب يترجرج كأن الموت يدق حوافره عليه.. كأنه اغلق دون الملائكة.. فتحته انصاف وهم في كعبها.. تسمروا كان قد عاد من قبل. وضع كمامة الاوكسيجين فقط في فمه وراح في نوم عميق. لم يتحركوا ولا شالت اقدامهم. يبصون في اتجاه واحد كأعمدة زرعت مكانها."
وتتنهي الرواية بقول ردده وحيد الطويلة نفسه أيضا في "تيتر الرواية" وجاء على الشكل التالي "النعش ليس على باب المستشفى والملائكة تفرقت."

وحيد الطويلة في أحمرخفيف

وحيد الطويلة في أحمر خفيف
بقلم د‏.‏ صلاح فضل
وحيد الطويلة كاتب روائي متميز‏,‏ يعمل في الجامعة العربية‏,‏ ويعيش في تونس منذ عدة أعوام‏,‏ لكنه يستحضر من هناك روح قريته الأم‏,‏ الرابضة في أراضي الدلتا‏,‏ ليعزف علي ايقاعها منظومة من الحكايات الريفية الموجعة‏,‏ تتعايش فيها الأحلام والاساطير‏,‏ وتتخللها المواقف الطريفة المسنونة‏,‏ لنماذج بشرية عجيبة‏,‏ اختمرت وتضخمت في مخيلة مغترب منقوع في الشجن‏,‏ يستحضر الوطن من براثن الفانتازيا في مبالغات مدهشة‏.‏
هكذا نجد روايته الجديدة أحمر خفيف وهي تجترح طرافتها المميزة في العنوان والمطلع والختام وكل الصفحات‏,‏ إذ تسجل في الورقة الأخيرة المقاهي التي كتبت عليها ابتداء من مقهي السقيفة بتونس‏,‏ لصاحبته نجوي‏,‏ التي تعلق غلاف رواية ألعاب الهوي ـ وهي عمله السابق ـ علي الحائط و تحكي للزبائن كل ليلة أحد ـ أي في سهرة الاسبوع ـ عن المصراوي الذي كتبها‏ ، وكأن كاتبنا بهذا التفصيل الزخرفي الموشي يحاكي الفنانين التشكيليين‏,‏ وهم يرسمون في ذيل لوحاتهم بورتريها مصغرا لهم‏.‏
يورد المؤلف عقب ذلك اسماء المقاهي السبعة التي شهدت مولد روايته في تونس وقطر‏,‏ المفارقة البارزة في هذا المشهد ان هذا النوع من الكتابة علي وجه التحديد من العسير ان نتخيله وهو يتخلق وسط الضجيج وحضور الآخرين في المقاهي‏,‏ فهو استقطار لعطر الماضي‏,‏ واعتصار لثمالة الذاكرة‏,‏ وتعتيق لعوالم الواقع المتوهم إنه كتابة سردية مغايرة للمألوف‏,‏ تحكي عن أشخاص وأحداث مغلفة بالأسطورة ومشبعة برذاذ الشعر‏,‏ لنعد الي مطلع الرواية الذي يمثل مشهد احتضار طويل‏,‏ يمتد عبر النص بأكمله‏,‏ فيجعل من البطل كائنا خرافيا عجيبا شهور تمر ومحروس كأنما اختار المستشفي مقرا أخيرا‏,‏ بيتا ومقبرة‏,‏ لا يزيد ولا ينقص‏,‏ المحاليل معلقة‏,‏ الخيوط مفتوحة يبن جسده والحياة‏,‏ واصلة بين روحه والموت‏,‏ والقرية تركت حالها ومالها ونفرت اليه‏..‏ شهور يدعون له‏,‏ كبير البلد‏,‏ حبيبها وحاميها‏,‏ والكبير لا يهان حتي ولو من موت‏,‏ نشف الزرع والبهائم علي وشك الهلاك‏,‏ تعطلت مصالح الخلق‏,‏ والدعوات ترفع في الصلوات وخطب الجمعة‏,‏ الدعوات التي كانت تصله بالشفاء صارت تكال له بالراحة والرحمة‏.‏ وأهل القرية علي قدم وساق‏,‏ مأزومون كثور يدور بعيون مفتوحة في ساقية‏,‏ كغريق يتعلق بعود قش.
ودعك من ابنته إنصاف وهي تناجيه وتطارحه العزيمة كي يطرد ملاك الموت‏,‏ والطبيب الذي حار في ذلك الكيان الأسطوري الخارق لقوانين العلم في مقاومته للموت واحتضاره الذي يجعل من حياة القرية مجرد هامش علي صفحة الوجود بدونه‏.‏

البلاغة القروية:
تتوالي إثر ذلك فصول مروية علي لسان الراوي العليم‏,‏ لكنه لا يوظف صيغة الغائب‏.‏ بل يعمد الي خطاب القارئ وكأنه يريد أن يضفي مسحة ملحمية علي القص‏,‏ فصول دموية ممعنة في عنفها‏,‏ لإخوة يحترقون‏,‏ ورجال جبارين يحترفون القتل والسرقة واللعب بالحياة‏,‏ وفصول أخري غزلية تطفح بالشبق‏,‏ وتحفل بالاشارات الجنسية الفاضحة للرجال والنساء‏,‏ للزيجات والاشواق والاهواء‏,‏ في فضاء بعيد المرمي‏,‏ شاحب الملامح‏,‏ تتردد فيه اصدقاء الاسماء‏,‏ والصفات ذاتها‏,‏ مثلا فرج الاسود الذي يبرر لونه بأطرف قصة عن جدينا سام وحام‏,‏ وكيف ان كلا منهما ـ في زعمه ـ قد هطل عليه المطر وهو يمضي في الطريق يحمل نسخته المخطوطة من المصحف الشريف‏,‏ أما حام فقد خبأها في طيات ثيابه فنجا بلونه الابيض‏,‏ لكن سام فقد صوابه‏,‏ ووضع المصحف علي رأسه يحتمي به من المطر‏,‏ سال الحبر علي وجهه وجسده‏,‏ ومن يومها وقد دمغ السواد بشرته وذريته الي الأبد‏.‏
تتوالي النماذج والحالات العجائبية الاخري‏,‏ مثل عزت حركات أو الدكتور عزت الذي لا يشبع من معشوقاته الحقيقيات والوهميات‏,‏ كان مولعا علي وجه الخصوص بالممرضات وقد خلعن عليه لقب الطبيب دون أي دراسة او شهادة ـ لكنه لا يرتدع‏,‏ وحتي إن شبع تتقلب بطنه فجأة‏,‏ يشعر بزوجته دودة تلعب في بطنه‏,‏ وان خباأ,‏ وحتي ان تنقل‏,‏ ينتقل سريعا من وردة لأخري‏,‏ عزت برق لمع‏,‏ يقطع الوعود والوفاء لأخريات‏,‏ وعيادات الاطباء اكثر من الهم علي القلب‏,‏ وهن غادرنه‏,‏ إن كن موجودات أصلا‏,‏ رغم كثرة الصور ونفحات الجبن القديم والعسل

ولا تقتصر الفتنة علي الرجال‏,‏ فهذه غزلان أرملة طروب علي الطريقة القروية‏,‏ ... وجهها الحليب راح ينشف منذ وفاة زوجها حبيبها‏,‏ زوجها عشيقها‏,‏ رفعت الطرحة الشبكية أعلي فمها‏,‏ فتركزت الاضواء علي العيون والحاجبين والمناخير النبقة‏,‏ وتركت لفمها أن يعلن اكتمل البدر حتي ترخي الطرحة لأسفل‏..‏ بعود ملفوف لا تتغنج قاصدة‏,‏ لكن اشياءها تكاد تنفرط منها في كل اتجاته فتخلب لب الرجال.
بيد أن ابرز ملامح هذه الكتابة السردية أنها توغل في مسارين متوازيين علي ما بينهما من مفارقة واضحة‏,‏ اولهما صناعة النماذج البشرية وأسطرتها وتحويلها الي رموز تجاوز دلالتها المباشرة في كثير من الاحيان‏,‏ فمحروس يكاد يطير من غرفة الانعاش الي أفق الزعامة‏,‏ وفرج الاسود المصاب بالجذام يرمز لليل‏,‏ وعزت علامة الشطارة والجسارة‏,‏ اما المسار الموازي فهو هذا الاسلوب البليغ نصف الشعري‏,‏ بجمله المكثفة‏,‏ وعباراته المجازية‏,‏ ومطالعه المأثورة وسطوره المنقوصة‏,‏ مما يطرح مساحة كافية للدهشة من تجاور هذين المسارين وما يشفان عنه‏,‏ عالم القرية الموغل في عاميته‏,‏ وعالم الصور التعبيرية المسرف في فصاحته‏,‏ وتظل متعة التراسل بين هذين الطرفين منبعا ثرا للشعور بالطرافة التي لا تصل الي الفكاهة‏,‏ والمتعة التي تنبثق من الفن الطازج الجميل‏.

الجمعة، 6 فبراير 2009

النشر وسنينه

لي مع الناشرين سواء كانوا عاملين في مؤسسات عامة, أو ملاكا لدور نشر خاصة مشوار طويل وصعب فيه الكثير من المنغصات, والقليل من اللحظات المفرحة, وسوف أرجي في هذه العجالة الحديث عما هو مفرح في هذا المشوار, لأن ما هو مفرح ليس فيه من المتناقضات ما يكشف عن مشكلات ما في صناعة النشر المصرية, أما المنغصات فيمكن عن طريق تحليلها وضع أيدينا علي الكثير من الأمراض في هذه الصناعة ودهاليز إداراتها, ومن ثم محاولة علاجها, ووضع الأدواء المناسبة للخلاص منها.في البداية سوف أحكي لكم قصة نشر ديواني الأول" لكننا لسنا دائما علي ما يرام", وهذا الديوان صدر عن هيئة الكتاب المصرية, وهي مؤسسة عامة من أضخم مؤسسات الدولة المصرية التي ينصب عملها علي النشر وشئونه, وقد كان وراء نشر الديوان الكاتب الكبير إبراهيم عبد المجيد الذي كان وراء ظهور السلسلة التي طبع ضمن إصداراتها الديوان, كان ذلك قبل صدور الديوان بحوالي خمس سنوات, وقد التقي عبد المجيد وقتها مجموعة من المبدعين الشباب لم أكن من بينهم في مقهي زهرة البستان, وأخبرهم أن الهيئة تشرع في إصدار سلسلة جديدة بديلا عن سلسلة إشراقات أدبية التي ساءت سمعتها, ولم تعد تحظي باهتمام الكثيرين من المبدعين المصريين الذين عزفوا عن تقديم ابداعاتهم لها, وقال عبد المجيد أنه سوف يكون مسئولا عن تحرير هذه السلسلة, ودعا إلي تعجيل تسليمه عدد من دواويين الشعر والمجموعات القصصية والروايات لنشرها في السلسلة, بعد اللقاء كان من المخطط أن يبدأ عبد المجيد بإصدار خمس كتب في مجالات الابداع المختلفة كباكورة لإصدارات السلسلة, بعدها تتوالي الإبداعات والكتب, لم أستغرب وقتها أن لا يصدر الديوان بعد الخمسة كتب الأولي فقد سبقني عدد من الأصدقاء إلي تقديم إبداعاتهم, لكنني رغم ذلك لم أتأخر في تقديم مخطوطة كتابي كثيرا, حيث لم يمر كثيرا علي إعلان ظهور السلسلة إلا وكان المخطوط لدي المسئولين عن السلسلة في الهيئة, بعد ذلك بدأت مرحلة الانتظار, ومر عام بعد عام بعد عام حتي اكتملت سنوات الانتظار خمسا بالتمام والكمال, ساءني ذلك كثيرا حتي قابلت الشاعر والمحقق الثراثي أيمن حمدي وقد كان وقتها سكرتير تحرير السلسلة, وعندما أخبرته بالمسألة قال لي عليك أن تقوم أولا بكتابة الديوان علي الكمبيوتر, حتي نعجل بظهوره ونتلافي الأخطاء التي يمكن أن يصدر بها فيما لو تمت كتابته في الهيئة, لم يمر وقت طويل بعد ما سلمت أيمن الديوان مكتوبا علي الكمبيوتر, فقد فاجئني به, ودعاني للذهاب إلي الهئية لكتابة عقد نشره, وقد قام أيمن وهو صديق عزيز بتولي مهمة الدعاية للكتاب وقام بنفسه بتوصيله إلي عدد من المشرفين علي الصفحات الأدبية والثقافية. وهنا يجب ملاحظة أنه لولا وجود أيمن في الهيئة ما كان الديوان صدر ولا رأي النور حتي الآن, ونحن نسمع الكثير من القصص عن أعمال إبداعية ضاعت ونسيها سكان هيئة الكتاب لسنوات, حتي فقد أصحابها الأمل في صدورها.هذه قصة صدور ديواني الأول, والمدهش فيما صاحب صدوره هو أن عقده لم يتجاوز أربعمائة جنيه, وأعطي الهيئة حق احتكار إعادة طباعته لخمس سنوات أخري فوق الخمس سنوات التي قضاها الديوان حبيسا للأدراج, أما ديواني الثاني فسوف أحكيها لكم في مقال تال قريبا إن شاء الله.