حادث النصف متر / صبري موسى
مقدمة :
ربما لا يستطيع كل من يدخل عالم صبري موسي ، إلا أن يتوقف غارقا فى دهشته يتأمل فى هدوء ، هذه الدماء التى تغرق سكين العادية، ويفتش عن الجرح فيما حوله لكي يحدد مصدر الصرخة التى سمعها تتردد بين أركان هذا العالم .
هذا هو الملمح الرئيسي للكتابة عند صبري موسي ، فى كل أعماله الروائية بدءاً من ( حادث النصف متر ) (1) التى نقب خلالها عن الملامح الحقيقية لمجتمع ما بعد ثورة 1952م .. فى تجربة حب بين شاب وفتاة، أظهرت إلي أي مدي كان التغير الثقافي خارجيا ، لم يمس جوهر المجتمع فى شئ . ثم ( فساد الأمكنة ) (2) . والرحلة الرائعة إلي جبل الدرهيب قرب حدود السودان ، وهو يحكي لنا مأساة نيكولا ويظهر لنا كيف يتسبب البشر فى إفساد المكان . وأخيرا يرحل بنا فى الزمان إلي السنة الواحدة والثمانيين من القرن الرابع والعشرين باليوتوبيا العلمية ( السيد من حقل السبانخ ) . والتى يقدم فيها رؤاه لمستقبل كوكب الأرض ، ليشد انتباهنا إلي ما ينتظرنا فى عالم جديد ، ويعري حياتنا بكل قساوتها وشرورها عبر الإسقاطات العديدة علي واقعنا المر . من هنا نستطيع التعرف علي زاوية الرؤية لدي الراوي ، التى تجتذبها سلبيات الواقع المعاش مهما اختلفت موتيفات هذه العوالم التى التقطتها الكاميرا بذكاء شديد .
لم يكرر صبري موسي نفسه فى أي من الأعمال الثلاثة فجاء كلا منها متميزا بل ومضيفا إلي الاتجاه المتفرد الذي سلكه فى الكتابة ، ليؤكد اختلافه عن دائرة الرومانسيين فى أواخر عهدهم ودائرة الواقعيين الاشتراكيين ، الذين استكملوا المسيرة بعد ذلك برؤيتهم الواضحة تبشيريه كانت أم حالمة . هذا المنتمي للكتابة والإنسان لم يستطع إزاء المستجدات الاجتماعية فى الخمسينات والستينات إلا أن يظل علي حياديته بين الدائرتين ، يعيد النظر فيما حوله من علاقات ونظم قائمة تماست مع جديد الثورة ، وأن يتحقق من السائد ليحاول فهمه ومنطقته إن استطاع . لذلك نجده فى كل أعماله لا يقف – بعد التقاطه للحدث – عند مورفولوجيته ( ظاهره ) بل يتعداها إلي أناتوميته ( تشريحه ) مستخدما فى ذلك أدواته الخاصة حتي تكتمل الرؤية وأقول هنا بتحفظ " اكتمال الرؤية " لدي المبدع والمتلقي اللذان يصلان معا إلي نقطة الغليان ( الكشف / الفهم ) و ( العجز / الاستسلام ) فى الوقت ذاته عبر أحداث عادية يصل بها المبدع إلي حد الحيرة والالتباس .
هذه هي الأرضية التى يقف عليها القارئ فيري ما حوله وما اعتاده، وكأنه يراه لأول مرة ، ولا يجد سوي دهشته من غياب الحلول أو البدائل لدي المبدع – الباحث – لسبب بسيط هو أنه لم يصل إليها فى بحثه وتحليله لما يراه . إن أدب صبري موسي ، لم يعرف القوالب الجاهزة ، ولذلك جاءت روايته الأولي ( حادث النصف متر ) بشكل ينأي بها عن مثيلاتها من الروايات الاجتماعية فى تلك الفترة كرواية أمين ريان ( حافة الليل ) ، أو حتى السابقة لها مثل ( اللص والكلاب ) لنجيب محفوظ . يظهر ذلك فى تقنيات البناء الفني للرواية ، وسوف نتطرق هنا إلي نقاط الإختلاف عن السائد في الكتابة فى ذلك الحين ، والتى " شكلت نسيج الحداثة الجنينية بخيوطها الواقعية واللامبالية والملتبسة جميعا " (4) .
أولا - عنوان الرواية :
حدث النصف متر
( قصة حب بسيطة ) .
منذ اللحظة الأولي يعطي صبري موسي مفاتيح العادية للقارئ ، عندما يصف الرواية بأنها ( قصة حب بسيطة ) ، فيكسر عن عمد عنصر المفاجأة ، ورغبة القارئ فى استكناه ما يندرج تحت هذا العنوان وكأنه يستثيره أن يكتشف العلاقات المخاتلة ، وكيف تتشابك لتعطي هذا النسيج الذي أقر بعاديته ، وبساطته ، فلا يكون أمامه سوي فرصة التأمل وبذلك يكون المبدع – الباحث – قد نجح فى تحقيق هدفه دونما مزايدة أو ضجيج .
ثانيا- البدء من النهاية :
" كان طويلا ، فانحني وهو يقدم لي نفسه ، ثم طلب مني أن أبتعد عن حبيبتي لأنه سيتزوجها ، لم أكن أعرفه لكن حبيبتي كانت قد تعودت فى الأيام الأخيرة ، أن تنقنق بإسمه فى لذة ، وقد سارع فأخبرني أنه يتشرف بلقائي بناء علي رغبتها ، فأخفيت مخالبي وشددت علي يده وأحكمت قناع الكبرياء علي وجهي ، وأنا أتمني لهما السعادة معا ، وسرني جداً أن أكون متحضراً وعصريا إلي هذا الحد ! لكنه عندما أعطاني ظهره الطويل ومضي ، شعرت أنني أكاد أنشق إلي نصفين من الغيظ " ( الرواية ص 8 ) .
ربما يكون البدء من النهاية ثم استرجاع الأحداث بـ (الفلاش باك) حتي نقطة البداية ليس غريبا علي القارئ ، ولكن هذه اللوحة البصرية عميقة الخصوبة والبساطة فى الوقت ذاته ما هي إلا وسيلة لفتح بوابات الداخل وما يرتبط بهذا الداخل من رؤية رجراحه وأحلام متكسرة . فنجده بذلك يشد القارئ إلي منطقة البطل الذي يرصد منها الحدث المؤطر بالعادية ، والمأساة البسيطة بساطة الموت فى تكراريته ووجوده. ولا يتوقف البطل عند هذه البللورة التى يهديها للقارئ منذ البداية فيري فيها الحدث والجوانب النفسية للأشخاص الثلاثة المحوريين فى المأساة فقط بل يكرر هذه النهاية فى أماكن متعددة من الرواية ممعنا فى تأملها و هي تلح عليه بشكل كابوسي إلي أقصي حد كما سنري ص 11 ( أنا الذي ذات صباح خريفي انحنى أمامه رجل طويل لا يعرفه وطلب منه بتواضع واضح الافتعال أن يتنازل عن حبيبته ليتزوجها ) ، ص 13 ( هذا المزاج المتقلب سيؤدي بي فى النهاية إلى أن أفقد حبيبتي بهذه الطريقة العصرية ) ، ص 27 ( بعد عامين من هذا الحادث سوف ينحني أمامي) ، ص 38 ، ص 57 ، ص 101 ( نفس التكرارية للنهاية بعينها ) ، هذه التكرارية تضعنا وجها لوجه أمام الحدث ( مأساته ) أو بلغة الدراسين الفينو منولوجيين ( حادث الوعي الحقيقي ) والذي نعتبره ذا دلالة منذ البداية حيث ( يؤكد أنه موجود بقدر ما هو ذو دلالة ) .
هذه النهاية المخاتلة ، لم تكن سوي حادث الوعي أما النهاية الحقيقية للرواية فهي ركام هذا الرجل الذي ( لا خبرة له بالحكايات ، ويحدثنا وأمامه نصف زجاجة من خمر بيضاء ، وليس فى نيته أن يخدعنا ) الرواية ص 8 . هذا الرجل الذي يداعب شجرة حزنه ليتأمل معنا هزائمه المستمرة ، التى أثمرت ثمارها السوداء داخل قلبه ، وهذا القهر الذي لا يهدف إلا إلي حذف وجوب البحث عن طرق جديدة للخروج من الأزمة لا يعطي سوي الاغتراب عن الواقع الذي يعيشه البطل بعادية ولا مبالاة واضحة تجعله ( يري جميع الحوادث فى نظره – كراوي قصة مسلية – متكافئة فى جودتها ) الرواية ص 27 ، لأنه يري ( إن فى طريقة وجودها ما يبرهن علي أن هناك من يقوم بخلق كل شئ ) الرواية ص 27 ، ( كل شئ يتغير بطريقة منتظمة دون أن يدري أحد ) الرواية ص 19 . هذه القدرية أيضا كفيلة بإضفاء قيمة السلبية علي كافة أجزاء الميدان الذي يوجد فيه البطل فنراه يبعد تماما عن الهدف الإيجابي المتمثل فى البحث عن طرق جديدة للخلاص ، ليقف علي الحافة الحرجة عاجزا عن الفعل وهو ( رجل عادي علي وجه التقريب ، وجميع غرائزه تطل برأسها فى حذر ، وهي ترمق قوانين المجتمع بنصف عين ) الرواية ص 9 . ليس أمامه فرصة سوي تأمل الأحداث التى مضت ( أتأملها الآن من فوق هذا الزمن الذي راح ) الرواية ص 78 لأنه يؤمن أنه فى مكان ما ، فى قلب كل تجربة، ( خفايا صغيرة دقيقة لا نستطيع أن نلمسها إلا إذا انتبهنا انتباها كافيا،أو أحببنا حبا كافيا أو صبرنا صبرا كافيا) الرواية ص70.
هكذا ينتقل صبري موسي مع القارئ من موروفولوجية الحدث إلي أناتوميته فيسأل الانفعال عن الوعي ، وعن الإنسان، لن يسأله عما هو فحسب بل عما لديه من علم عن كائن من بين خصائصه كونه قادرا علي أن يكون منفعلا ، وبالعكس سيسأل الوعي والواقع الإنسانى عن الإنفعال الممكن والذي أصبح ضروريا . ولعل هذا ما يفسر منطقية تقسيم الرواية إلي أجزاء متتالية تبدأ ( بالتاريخ السري لرجل ) ، ثم ( فكرة الوقوع فى الحب ) ، ( الرجل السابق المجهول ) ، ( مفاتيح بيوت لا نملكها ) ، ( الخروج من عنق الزجاجة ) وأخيرا ( الرجل الطويل ينهي المسألة ) . هذا التقسيم البحثي يسهل له استخدام أدواته ، ويجعلنا ندخل بيسر إلي جسد الحدث بعد تجهيزه .
ثالثا – الشخصيات / الحدث :
تتبعثر الملامح المختلفة للشخصيات عبر أجزاء الرواية فلا نكاد نستجمع ملمحين متتاليين لنفس الشخصية فى مكان واحد ، أو فى تتابع تاريخي سردي ، لأنه يعتمد علي اللقطات. وسوف لا نلمح أيضا أسماء علي الإطلاق اللهم إلا السيد ( زينهم ) ، وفي اعتقادي أن هذه الخصوصية لشخصيته نتجت من ارتباطها بخصوصية المكان ( حيث كان بيته العائلي معداً بشكل شبه سري لاستقبال الثنائيات التى تبحث دوما عن جدران بديلة عن الشوارع ) . هذه الشخصية بشكلها الناتئ ، والناتج من شدة امتهانها للتقاليد المجتمعية المعاشة ، والتى أيضا تعيش فى أمان وسط هذا المجتمع كان لابد أن تكتسب هذه الخصوصية وهذا التأطير . أما بقية الشخصيات ( حتي المحورية ) فغابت اسماؤها بشكل يخدم هدف الروائي / الباحث فى ضمان تسليط الضوء علي الحدث نفسه دون أن يشغل القارئ حتي بالاسماء . إن إلغاء هذه الخصوصية للشخصيات يثري تعميم التجربة التى يمكن أن يكون بطلها أي منا .. ورغم هذا النسيج المتشابك من الضمائر الغائبة والمخاطبة والمتحدثة نستطيع أن نميز فى سهولة تامة شخصيتي (الشاب والفتاة ) بينما يمثل تواجد الشخصيات الأخرى الجسر الذي يربط بين الشاب والفتاة والواقع المعاش ( فى التجربة ) فهي تعمل ككشافات اجتماعية تنير الطريق الذي سلكاه أمام القارئ ليسهل عليه تقصي أثرهما حتي ولو كان ملتبسا أو دقيقا وهنا لا يجب أن نغفل النقطة المحددة التى يكتب منها الروائي والتى هي أقرب ما يكون فى منطقة ( صلة العلة بالمعلول) أو صلة السبب بالنتيجة ومن ثم فهو لا يعطينا ملامح جاهزة مسلم بها ، هذا الأسلوب التحليلي جعله يصل إلي مناطق سوسيولوجيه عبر الأجيال التى انحدر منها ليوضح أثر الوراثة فى السمات الشخصية والتى جعلته ( شخص متقلب ومختلط المزاج ) وأثر البيئة التى يحددها من خلال طبقته الاجتماعية وهي الطبقة المتوسطة التى تتميز بأن ( سكانها شديدو الأنانية لا يهتمون بشئ سوي ذواتهم ، أنهم يواصلون الزحف فى التواء وخبث علي أعتاب الطبقة العليا بينما القلق يطحنهم لأن الرعب من السقوط فى الطبقة السفلي لا يزايلهم لحظة ) الرواية ص 10 ، 11 .
ولم ينس أثناء ذلك أن يجعل أوجه الاستعمار المختلفة التى عاني منها المجتمع خلفية تاريخية تطل برأسها فى السمات الشخصية للأفراد . وجعلنا أيضا نلمس من خلال لقطات ذاكرته شكل التنشئة التى جعلته ( ضعيفا سلبيا لا يجيد اتخاذ القرارات ) الرواية ص 14 . ومراهقا شديد الخجل والحساسية يتعلم لعبة الحب علي يد فتاة الشاطئ ذات المايوه الأحمر فى بناء لم يستكمل بعد ، ثم تتزوج بعد ذلك فتعلمه أيضا ( أن الفتاة يمكن أن تلعب اللعبة مع رجل ثم تتزوج رجلاً آخر ) الروية ص 19 . إذن لا شئ حقيقي ولا شئ ثابت . ثلاث فتيات يعرفهن بعد ذلك أثناء دراسته ويتزوجن فى هدوء يؤكدن لهذه القاعدة ، كل ذلك جعله يميل إلي طريقة الحياة الأوروبية ، لتسفر اللقطة التالية عن شاب قلق جدا تسيطر عليه فكرة أنه ( رجل لكل النساء وأنه من الضروري تصفية هذه العلاقات والاحتفاظ بواحدة علي طريقة الرجال الواضحي التهذيب ) الرواية ص 26 .
ب- الحدث :
فنصل بذلك للحدث الرئيسي وهو قصة الحب السريعة التى تمت بالصدفة البحتة لمجرد أن بنتا فقدت توازنها أثناء اهتزازة مفاجئة بالأتوبيس فأمسكت بذراعه بطريقة لا إرادية وهنا تتضح ( عادية الحدث ) فيضحي هو بساعات نوم الظهيرة وتختلس هي الوقت من بين المحاضرات وتنزلق الأمور بعد ذلك إلي صديق يدل الشاب علي منزل السيد زينهم . من هنا تبدأ المأساة ( شاب وفتاة فى المرحلة الثالثة من العمر يشعران بالعزلة النفسية فى هذه المدينة الكبيرة التى تزين سماءها الأضواء وفي هذا العالم الكبير المدهون فقط بالحضارة ) الرواية ص 46 من هذه الغرفة وكل الغرف التى يمتلكوا سوي مفاتيحها فقط نجترح اللحظة المخبأة معهما ، هذه الغرف التى شهدت غلياء الدماء الحقيقي وغيبوبة الانتشاء الكامل تجترحنا أيضا – وبلا هوادة – بكمية الأسئلة التى تتفجر فيها علي المستوي النفسي للبطل وانعكاساتها الاجتماعية خاصة بعد أن يكتشف البطل أنه ( لم يكن فارس حبيبته الأول ) كان يعلم أنها تكذب بشأن ممارستها للرياضة التى تضطرها للقفز مفتوحة الساقين رغم ذلك يستمر فى علاقته بها ولقاءاته التى تعذبها أسئلته المحمومة التى غذاها مزاجه المتقلب كيف تعطي قلبك لامرأة كانت لرجل قبلك ؟ هل كان ما بيننا حب ؟ إنني فقط استمتع بها . إنني لا أطمئن إليها هي لم تحصل علىَّ حصولاً كاملاً ، لم أسلم نفسي لها كلية . كل هذه التوترات كانت تختفي وراء النسيج السميك القاتم للشهوة ونداءات الجسد ، لشاب أصبح الأمر لديه مجرد نزوة وفتاة تبذل أقصي ما تستطيع بذله جسديا وتتعذب لكي تمتلك هذا الرجل الذي وصل بها حاله إلي أن ( جعلها تتأرجح بين اللهفة واليأس لأنها تعلم أن وجودها ليس ضروريا لوجوده ) الرواية ص 78 وهنا تقرر أن تختبره لآخر مرة وتخبره بأنه سيصبح أبا فيقرر أن يجهضا هذا الجنين فى محاولات متعددة وفاشلة كلها . يصل حال القلق والاستهلاك الداخلي للفتاة إلي إصابتها بقرحة المعدة خاصة فى الأربعة شهور الأخيرة فى العلاقة وهنا يصل صدق الباحث إلي أقصي درجات نقائه عندما يعلن بهدوء أنه فى موضوع الزواج بالتحديد ( كنت أشبه غالبية الرجال ، كنت أفكر وأتألم ولكني كنت أفتقر إلي التصميم ، كنت أفتقر إلي إرادة التنفيذ التى تعطي لكلمة رجل معناها الحقيقي ) الرواية ص 88 .
وحسب النظرية السيكولوجية للانفعال عند دامبو ولوين (6) أن الدائرة التى يمكن للفرد اجتيازها تمثل عائقا ( ماديا أو معنويا ) تشكل فى نطاق إدراك الفرد حاجزاً تنطق منه قوة موجهة باتجاه معاكس للقوة الأولي فيستمر الصراع بين هاتين القوتين والتوتر الشديد فى المجال الحادثي فإن لم يستطع الفرد الحل أو الاستبدال لجأ إلي الرجوع عن التجربة والهرب من الميدان ) (7) . هكذا ينكسر الفارس فى حياة الفتاة والتى تنتقل إلي المستشفي لإجراء الجراحة ( لقرحة المعدة ) والمعروف أنها من الأمراض ( السيكوسوماتية ) ( النفسجسميه ) فتلتقي بالطبيب الذي يقدم لها شتي أنواع العناية ( الطبية والنفسية ) فتلاحظ اهتمامه الزائد بها لدرجة جعلتها ( تنقنق باسمه بين الحين والآخر كأنها تهدد الشاب به ) أثناء زياراته إليها فتأخذ قرارها الخفي فى أمر زواجها من الطبيب بينما يفكر الشاب جديا فى الزواج منها ، بل ويبدأ بالفعل من إجراءات طلب نقود من أجل الزواج لتقودنا المفارقة إلي قرارين أحدهما جعل الشاب ذات صباح خريفي حزين ( ينحني أمامه شاب طويل ويطلب منه أن يبتعد عن حبيبته لأنه سيتزوجها ) هكذا يقتضي الأمر منه أن يجعل العالم حقيقة محايدة علي الصعيد العاطفي ليصل إلي خلق نظام توزان عاطفي كلي وذلك عن طريق تخفيف الشحنة القوية وإيصالها إلي حالة الصفر العاطفي فإن لم يستطع ( وذلك ماحدث للشاب ) أو لم يشأ تنفيذ الأشياء التى كان يخطط لها ، تصرف وكأن الكون لا يتطلب شيئا منه ( هنا يظهر سبب اللامبالاة لدي البطل ) والعجز أيضا اذ لا يستطيع الا أن يؤثر علي ذاته فينطوي ويحزن (8). وهذا الحزن يهدف إلي حذف وجوب البحث عن طريق جديدة للخلاص لتستمر الحالة التى توقفت عندها كاميرا الروائي وكانت خاتمة للرواية .
رابعاً – المجتمع / المفارقة :
أ- المجتمع :
فى هدوء يتناسب مع عادية الكابوس ، يستخدم صبري موسى شخصيات ككشافات اجتماعية تمثل الجسر الذي يربط التجربة بواقعها المعاش ، فيعطي بذلك صورة لهذا النسيج المتآلف بما فيه من ثقوب واهتراءات يستنبطها القارئ من خلال تداخلات تفاعلها مع بعضها البعض ، دون أن يتدخل أو يعرض وجهة نظره الخاصة فتظهر الملامح الحقيقية لهذا المجتمع والتى تتمثل فى المحاور التى تماست مع دائرة الحدث الرئيسي فأثرت فيه منها :
§ التنشئة الاجتماعية وأثرها فى تكوين شخصية البطل ، وشكل الأسرة المحافظة علي التقاليد التى نشأت فيها البطلة.
§ الشكل العصري للحياة بموتيفاتها الدخيلة علي المجتمع وصراعها مع القديم المتعارف عليه ، والذي تمثل بشكل واضح
تماماً فى قائمة الممنوعات التى أثرها القريب العائد من أوروبا والتى اختتمها برؤيته ( أنتم هنا مساكين ممتلئون بالعقد )
الرواية ص 35 .
§ الصدفة بمفهومها الحديث والرؤية العصرية للتجارب العاطفية التى تصل إلي حد المخاتلة ( المعني / الواقع ) فتسهل
الغرف المتفرقة والتقبل العام للجديد المعاش حتى ولوكان فى الظلام .
§ الجدلية التى كانت علي أشدها فى ذلك الوقت والتى تمثلت فى قضية الرجل / المرأة . فأثرت علي شكل التعامل بينهما بما
إنهما معا من يديرا دفة الحياة . الرواية ص 53 .
§ أيضا ماضي الفتاة ومدي علاقة الزوج به إلي أي حد ؟ وكيف؟!
ب- المفارقة :
خلال الشرائح السابقة التى عرضها الروائي للمجتمع نستطيع أن نقف علي عدد كبير من المفارقات المؤثرة فى بساطتها والمتداخلة فى لحم العمل دونما افتعال أو تأطير . إذ تتكشف عبر الرواية كلها كلقطات معبرة ، فنجد فى اللقطة الأولي الصديق المتزوج الذي يخون زوجته بين الحين والحين يتبع شكليات تتفق عليها قبل أن يذهب بطلي المأساة إلي الغرفة فى منزل الأستاذ زينهم ، هذا الرجل الذي يبدو للوهلة الأولي رجل أعزب، يظهر لنا فى هدوء يشبه العادي بملامحه الكاملة ( متزوج وله من زوجته طفلان صغيران ، زوجته لها بنت كبيرة من زوج سابق يتم ذلك فى مقابل مبلغ من المال لا يجب أن يقل عن بضعة جنيهات ) ، ( السيد زينهم يعمل بالشئون القانونية فى إحدي الهيئات) الراوية ص 44 .
اللقطة الثانية : أول لقاء منفرد بين الشاب والفتاة بالغرفة المؤجرة يدير المفتاح فى الباب فتفزع الفتاه مما تراه ، تنكفئ علي الفراش وتبكي بانفعال يثير شفقته ويشعره بالآثم فيخرج معها للشارع وهو ممتلئ بالإحساس بالذنب نحوها والتفكير المثالي فيها وهي تسير إلي جواره صامتةً ترمقه بحنان مفعم بالاعتراف بالجميل . لكن : ( بعد ذلك بأربعة أيام عدنا إلي ذلك البيت ودخلنا نفس الغرفة وأغلقنا بابها علينا وكانت حبيبتي فى هذه المرة أكثر شجاعة ) الرواية ص 51 .
اللقطة الثالثة : فى الغرفة ذاتها وهما يصنعان الحب كانت عيناها تتوسلان إليه فى اللحظة الحاسمة بشئ لا يدريه . فهمه فى البداية أنه فزع من الفعل ذاته ، حيث كان متسربلا بفكرته المثالية عنها. لكنه بعد أن يكتشف أنه لم يكن فارسها الأول يظهر له سر الخوف الذي كان ( افتضاح أمرها ) ( لا مثاليتها ) الظاهرية .
تتابعت بعد ذلك اللقطات فيظهر الصديق الذي يمتلك الجارسونيره والتى يتفاخر بها يعيرهما إياها ليكتشف الشاب بالصدفة أن صديقه هذا لم يكن يستطيع أن يكون رجلاً مع أية امرأة يصحبها إلي هناك .
يظهر أيضا من خلال استعراض اللقاءات العديدة بين الشاب والفتاة فى مختلف الأماكن كل يوم (التزام الفتاة الشديد بتقاليد عائلتها) ومحافظتها علي الرجوع فى الثامنة مساءً والمكوث بالمنزل يوم الجمعة أجازتها الأسبوعية من الجامعة . والصديق الأخير الذي كان يبيح نفسه لكل النساء ، يخطب فتاة إحدي العائلات المحافظة وهو ما يزال علي علاقة مع صديقة تزوره بانتظام وتعيش معه تحت سقف واحد ، عندما يتزوج يكتشف أن بحياة زوجته رجلا كانت تعرفه قبل أن تعلن خطبتها، كانت آثاره علي روحها عميقة ولم تستطع أن تنساه فطلقها .
اللقطة الأخيرة : للشاب والفتاة ( فى نفس الكازينو جلسنا ثلاث ساعات نأكل ونشرب البيرة ونخطط فى أوراق أمامنا مئات الترتيبات لحياتنا الزوجية القادمة وقد غادرنا المكان ويد حبيبتي فى يدي ، في اليوم التالي يدق باب مكتبه رجل يحمل نفس أسمه لينحني أمامه وفى تواضع مفتعل يطلب منه أن يبتعد عن حبيبته لأنه سيتزوجها ) .
خامسا – السرد / الأسلوب :
أ- السرد :
منذ الجزء الأول يتوزع السرد ، علي ثلاث مجالات تتداخل من حين لآخر وتتقاطع ، مع ارتدادات إلي الوراء توضح لحظات الحاضر. فابتعد عن التسلسل التاريخي المنظم الذي يعتمد علي زمنية التتابع نجده مثلا علي مستوي الحاضر (يجلس الآن تحت شجرة ظليلة الحزن) ، ( مجرد رجل أعزب يدخن ذكرياته ويشرب خمرة بيضاء ويثرثر ) الرواية ص 20 ، وعلي المستوي النفسي نجده يتأمل التجربة بعين فاحصة ومحايدة تلزمه الصدق فى السرد حتي علي مستوي الأشياء الدقيقة ( الأن أدرك وأنا أتأمل التجربة من فوق هذا الزمن الذي راح ) الرواية ص 78 . وأخيرا علي مستوي الماضي ( فى تلك الأيام استولي علي شعور مر المذاق بأن ذلك الماضي الغامض يطاردني ويطاردها ) الرواية ص 68 .
ب- الأسلوب :
يتنوع أيضا أسلوب السرد ليوائم نوع التجربة الروائية التى نحن بصددها الآن ما بين المنولوج الذي يتناسب مع التداخلات النفسية للبطل خلال عملية الاستبطان للأحداث والأفكار والرؤي التى مرت أو التى يشعر بها الآن . والديالوج فى الحوار بين طرفي المأساة والذي شمل أهم خيوط الحدث الرئيسي يأتي بعد ذلك أسلوب الحكاية عن بقية الشخصيات المتماسة مع الحدث أو المتداخلة فيه ، علي مستوي الجملة نستطيع أن نلمح قصرها المحكم وتعبيرها الدقيق عما يريد قوله دون مطاطية او تشابه . أيضا التجريدات فى الوصف الذي يصل إلي حدث الاختزال ، فيصف مثلا العادي بالعادي ، والبسيط بالبسيط ، هذه اللغة تقتحم كافة المستويات الثقافية من قارئ المجلة حتي الدارس المتخصص بنفس الدرجة .
إن هذه الملامح الخاصة علي مستوي ( السرد والجملة واللغة ) أعطت الكثير بشكل تحليلي بحثي ، وبشكل أدبي قوي ، وأخيرا بشكلها الصحفي الذي اعتمد علي نشرها مسلسلة فى مجلة صباح الخير فى عام 1962 م . هكذا نستطيع الآن أن نخرج من عالم صبري موسي ونحن مؤمنين تماماً بتقنيته الشديدة وأدواته المميزة التى اعتدنا دائما أنها تدمي ولا تجرح .
الهوامش :
1- صبري موسي ، حادث النصف متر ، الأعمال الكاملة ، الجزء الأول ، الهيئة العامة للكتاب 1987 م .
2- صبري موسي ، فساد الأمكنة ، الأعمال الكاملة ، الجزء الأول ، الهيئة العامة للكتاب 1987 م .
3- صبري موسي ،السيد من حقل السبانخ ، نشرت مسلسلة بمجلة صباح الخير ( 18 جزءاً ) فى الفترة من 3 سبتمبر ، 1981 إلي 4 يناير 1982.
4- غالي شكري ، مقدمة الأعمال الكاملة لصبري موسي ، الجزء الرابع ، هيئة الكتاب 1992 . ص 24 .
5- سارتر ، نظرية الانفعال ، دراما الآداب بيروت ، ص 16 .
6- دامبو ولوين من تلاميذ عالم النفس كوهلر .
7- سارتر ، نظرية الانفعال ، دار الآداب بيروت ص 33 .
8- نفسه ص 59 .