صبري موسي وفساد الأزمنة
فؤاد قنديل
رواية «فساد الأمكنة» وضعت تحت عين القارئ عالما غريباً ومدهشاً لم يقترب منه أحد من قبلمن لم يقرأ صبري موسي ويستمتع بتلك الأنشودة العذبة من أناشيد الإبداع العربي، فقد فاته الكثير، وعليه أن يعوض هذا الذي غاب عنه بأن يطالع ما خطه قلم هذا الكاتب الرقيق والمثقف صاحب الرؤية العميقة دون صخب، والذي قدم للمكتبة العربية عددا من الأعمال الأدبية ذات النفس المتفرد، تأتي في ذروتها واحدة من أجمل الروايات العربية وهي «فساد الأمكنة» التي اقتحمت مبكرا مسارين جديدين علي مستوي الشكل والمضمون، وكانت دون أدني شك وبالإجماع بلورة فنية لا تزال تشع بهاءها علي أفق يتجاوز الخريطة الإبداعية العربية. فعلي مستوي الشكل ارتادت «فساد الأمكنة» عالم الواقعية السحرية قبل أن تبلغنا إبداعات أدباء أمريكا اللاتينية، ووضعت تحت أعين القارئ عالما غريبا ومدهشا، لم يتم البناء عليه واستثماره بأقلام أخري إلا في النادر، وعلي مستوي الموضوع أنقذت الرواية نفسها ـ إذا جاز التعبير ـ من الوقوع في أسر المعتاد والسائد، سواء بالكتابة عن المدينة أو القرية، ورحلت إلي الصحراء، وبالذات المنطقة المجهولة جنوب الصحراء الشرقية لتقدم لنا عملا فاتنا بكل معني الكلمة، ولا يزال هذا العمل وسيظل قادرا علي جذب القراء وإمتاعهم بالقدرة ذاتها علي إلهام الكتاب الشباب. عرفت صبري موسي أواخر السبعينيات، عندما دعوته للحضور إلي ندوة كنت أديرها في شبرا ليتحدث إلي أعضائها عن تجربته الأدبية، ويومها فوجئت به يحدثني بفرح غامر عن روايتي القصيرة «السقف» التي قرأها مطبوعة بالماستر.. وافق علي الحضور، لكن عدة رحلات صحفية خارج مصر شغلته عن الوفاء، ولم تسنح الفرصة بعد ذلك إذ توقفت الندوة أوائل سبتمبر 1981 لأسباب سياسية، لكن علاقتنا أخذت في التصاعد وترسخت في مجلس إدارة اتحاد الكتاب، حتي أصبحت لا أستطيع تحمل غيابه عني طويلا وكان معي ومع غيري عطوفا ونبيلا وصادقا ومتعففا وليس كبعض الكتاب الذين لا يتوقفون عن الكلام عن أنفسهم، فقد لاحظت تجنبه الدائم لمثل هذا اللون من النرجسية المفرطة، وصبري عموما قليل الكلام بلسانه، كثيره بعينيه وإحساسه.إنني لا أستطيع أن أحب كاتبا أعجبني قلمه وصدمتني شخصيته .. ربما أكون مخطئا، لكنني أفضل ألا أرتبط جدا في علاقات مشتبكة مع كاتب يفتقد القيم مهما كان موهوبا، وصبري من القلائل الذين تعثر لديهم علي الكاتب المبدع والإنسان الخلوق.قرأت للكاتب الكبير «صبري موسي» من الروايات قبل «فساد الأمكنة» «حادث النصف متر»، وبعدها «السيد من حقل السبانخ» وقرأت له من المجموعات القصصية «وجها لظهر» «حكايات صبري موسي» «مشروع قتل جارة»، «السيدة التي والرجل الذي» وقرأت له علي حلقات في «صباح الخير» الرحلات التي قام بها إلي البحيرات والي الصحراء وباريس واليونان، وقد جمعها من بعد في كتب، ولم تغب عني ولا عن غيري ـ فيما أظن ـ تلك الطبقات السردية التي تمضي في سلاسة مع تنوع أساليب الطرح معتمدا لغة بسيطة وعميقة ودالة خالية من البلاغة الاستعراضية والتقليدية، حتي ليمكنني القول إن كتابات صبري مثله، هادئة في السطح، موارة في الأعماق، وتحمل الكثير من الخصوبة والتجديد دون ضجة، إذ ليس من بين سماته الشخصية محاولة لفت الأنظار علي أي نحو، ويمكن القول إنه من الفريق الذي يقول كلمته ويمضي.ولا تعد كتابته للسيناريو والحوار للأفلام التي ظهرت علي مدي عشرين عاما من قبيل «السبوبة» وأكل العيش، ولكنها أولا تنطلق من الاختيار الحر والإعجاب السابق بنصوصها، وثانياً لأن ما قدمه فيها من تقطيع سينمائي وبناء درامي وأحداث وحوار ينبثق من رؤية مثقف كبير وإنسان مصري يحس بإحساس المجتمع والناس حسب الفترة التاريخية لكل عمل، وقد استمتعت كما استمتع غيري بأفلام مثل البوسطجي والشيماء وقنديل أم هاشم وقاهر الظلام وغيرها، ولقد ظللت فترة طويلة أشاهد فيلم الشيماء وهو من أفضل الافلام الدينية في اعتقادي، وأدهش كيف أخرجه المخرج الراحل حسام الدين مصطفي وهو مخرج قدير له اجتهاداته، لكن ليس لدرجة إخراج هذا الفيلم الديني الذي يتمتع بشعبية بين الجماهير لا يتمتع بها فيلم آخر، مع كامل الاحترام لكل الجهود المبذولة في هذا السياق.كان صبري ولايزال في كل الأحوال ذلك الفنان المرهف الذي تربي في فيض من مشاعر الحب والإحساس بالجمال إبان فترة الطفولة والصبا في دمياط، حيث ولد في 19 مارس عام 1932، واكتملت التربية نحو الوجدان الراقي في كلية الفنون التطبيقية، وتأكد ذلك مع عمله مدرسا للرسم، إلي أن اكتشف في نفسه حب الكتابة كنتيجة طبيعية لميله الدائم للقراءة.انتقل للعمل في جريدة «الجمهورية» ثم راق له أن يرحل إلي مؤسسة «روزاليوسف» التي كان قد تعرف إلي عدد من أبنائها وأدرك أنها الأنسب لمواهبه مع توفر أفق الحرية، وقد بقي الفنان في الأعماق لا يفتأ يشارك في كل إبداع أدبي وصحفي وفني في الرؤية والنسيج واللغة وروح النص، وقد حرص الحرص كله ألا تأكله الصحافة رغم عمله فيها منذ عام 1952، فقد كان متنبها إلي سوسها الذي يمكن أن ينخر في عروق الموهبة.لم أكن في العنوان أقصد أن أسب الزمان، لأنه مثل المكان يتلقي عبث البشر وغواياتهم، لكني أشير إلي مساحة الفضاء العريض من النسيان التي يتعرض له صبري موسي، وإن كان قد لقي التقدير من الداخل والخارج وترجمت أعماله إلي عدة لغات، لكنه يستحق أن نحتفي بعيد ميلاده وأن نؤنس وحدته، ويستحق أن تقام له الحلقات الدراسية في هيئة قصور الثقافة وهيئة الكتاب والمجلس الأعلي للثقافة، وأن تطبع كتبه وأن تطل عليه عيون الأجيال الجديدة من عشاق الأدب، فرغم المرض الذي يترصده منذ سنوات وتوقفه عن الكتابة، فإن أعماله لم تفقد وهجها، وما زالت تفوح بعطرها وتعلن عن حضورها الآسر.. متعه الله بالصحة وأبقاه بيننا كاتبا وإنسانا ومصباحا مضيئا بنور الإبداع الذي لا يعرف الشحوب
رواية «فساد الأمكنة» وضعت تحت عين القارئ عالما غريباً ومدهشاً لم يقترب منه أحد من قبلمن لم يقرأ صبري موسي ويستمتع بتلك الأنشودة العذبة من أناشيد الإبداع العربي، فقد فاته الكثير، وعليه أن يعوض هذا الذي غاب عنه بأن يطالع ما خطه قلم هذا الكاتب الرقيق والمثقف صاحب الرؤية العميقة دون صخب، والذي قدم للمكتبة العربية عددا من الأعمال الأدبية ذات النفس المتفرد، تأتي في ذروتها واحدة من أجمل الروايات العربية وهي «فساد الأمكنة» التي اقتحمت مبكرا مسارين جديدين علي مستوي الشكل والمضمون، وكانت دون أدني شك وبالإجماع بلورة فنية لا تزال تشع بهاءها علي أفق يتجاوز الخريطة الإبداعية العربية. فعلي مستوي الشكل ارتادت «فساد الأمكنة» عالم الواقعية السحرية قبل أن تبلغنا إبداعات أدباء أمريكا اللاتينية، ووضعت تحت أعين القارئ عالما غريبا ومدهشا، لم يتم البناء عليه واستثماره بأقلام أخري إلا في النادر، وعلي مستوي الموضوع أنقذت الرواية نفسها ـ إذا جاز التعبير ـ من الوقوع في أسر المعتاد والسائد، سواء بالكتابة عن المدينة أو القرية، ورحلت إلي الصحراء، وبالذات المنطقة المجهولة جنوب الصحراء الشرقية لتقدم لنا عملا فاتنا بكل معني الكلمة، ولا يزال هذا العمل وسيظل قادرا علي جذب القراء وإمتاعهم بالقدرة ذاتها علي إلهام الكتاب الشباب. عرفت صبري موسي أواخر السبعينيات، عندما دعوته للحضور إلي ندوة كنت أديرها في شبرا ليتحدث إلي أعضائها عن تجربته الأدبية، ويومها فوجئت به يحدثني بفرح غامر عن روايتي القصيرة «السقف» التي قرأها مطبوعة بالماستر.. وافق علي الحضور، لكن عدة رحلات صحفية خارج مصر شغلته عن الوفاء، ولم تسنح الفرصة بعد ذلك إذ توقفت الندوة أوائل سبتمبر 1981 لأسباب سياسية، لكن علاقتنا أخذت في التصاعد وترسخت في مجلس إدارة اتحاد الكتاب، حتي أصبحت لا أستطيع تحمل غيابه عني طويلا وكان معي ومع غيري عطوفا ونبيلا وصادقا ومتعففا وليس كبعض الكتاب الذين لا يتوقفون عن الكلام عن أنفسهم، فقد لاحظت تجنبه الدائم لمثل هذا اللون من النرجسية المفرطة، وصبري عموما قليل الكلام بلسانه، كثيره بعينيه وإحساسه.إنني لا أستطيع أن أحب كاتبا أعجبني قلمه وصدمتني شخصيته .. ربما أكون مخطئا، لكنني أفضل ألا أرتبط جدا في علاقات مشتبكة مع كاتب يفتقد القيم مهما كان موهوبا، وصبري من القلائل الذين تعثر لديهم علي الكاتب المبدع والإنسان الخلوق.قرأت للكاتب الكبير «صبري موسي» من الروايات قبل «فساد الأمكنة» «حادث النصف متر»، وبعدها «السيد من حقل السبانخ» وقرأت له من المجموعات القصصية «وجها لظهر» «حكايات صبري موسي» «مشروع قتل جارة»، «السيدة التي والرجل الذي» وقرأت له علي حلقات في «صباح الخير» الرحلات التي قام بها إلي البحيرات والي الصحراء وباريس واليونان، وقد جمعها من بعد في كتب، ولم تغب عني ولا عن غيري ـ فيما أظن ـ تلك الطبقات السردية التي تمضي في سلاسة مع تنوع أساليب الطرح معتمدا لغة بسيطة وعميقة ودالة خالية من البلاغة الاستعراضية والتقليدية، حتي ليمكنني القول إن كتابات صبري مثله، هادئة في السطح، موارة في الأعماق، وتحمل الكثير من الخصوبة والتجديد دون ضجة، إذ ليس من بين سماته الشخصية محاولة لفت الأنظار علي أي نحو، ويمكن القول إنه من الفريق الذي يقول كلمته ويمضي.ولا تعد كتابته للسيناريو والحوار للأفلام التي ظهرت علي مدي عشرين عاما من قبيل «السبوبة» وأكل العيش، ولكنها أولا تنطلق من الاختيار الحر والإعجاب السابق بنصوصها، وثانياً لأن ما قدمه فيها من تقطيع سينمائي وبناء درامي وأحداث وحوار ينبثق من رؤية مثقف كبير وإنسان مصري يحس بإحساس المجتمع والناس حسب الفترة التاريخية لكل عمل، وقد استمتعت كما استمتع غيري بأفلام مثل البوسطجي والشيماء وقنديل أم هاشم وقاهر الظلام وغيرها، ولقد ظللت فترة طويلة أشاهد فيلم الشيماء وهو من أفضل الافلام الدينية في اعتقادي، وأدهش كيف أخرجه المخرج الراحل حسام الدين مصطفي وهو مخرج قدير له اجتهاداته، لكن ليس لدرجة إخراج هذا الفيلم الديني الذي يتمتع بشعبية بين الجماهير لا يتمتع بها فيلم آخر، مع كامل الاحترام لكل الجهود المبذولة في هذا السياق.كان صبري ولايزال في كل الأحوال ذلك الفنان المرهف الذي تربي في فيض من مشاعر الحب والإحساس بالجمال إبان فترة الطفولة والصبا في دمياط، حيث ولد في 19 مارس عام 1932، واكتملت التربية نحو الوجدان الراقي في كلية الفنون التطبيقية، وتأكد ذلك مع عمله مدرسا للرسم، إلي أن اكتشف في نفسه حب الكتابة كنتيجة طبيعية لميله الدائم للقراءة.انتقل للعمل في جريدة «الجمهورية» ثم راق له أن يرحل إلي مؤسسة «روزاليوسف» التي كان قد تعرف إلي عدد من أبنائها وأدرك أنها الأنسب لمواهبه مع توفر أفق الحرية، وقد بقي الفنان في الأعماق لا يفتأ يشارك في كل إبداع أدبي وصحفي وفني في الرؤية والنسيج واللغة وروح النص، وقد حرص الحرص كله ألا تأكله الصحافة رغم عمله فيها منذ عام 1952، فقد كان متنبها إلي سوسها الذي يمكن أن ينخر في عروق الموهبة.لم أكن في العنوان أقصد أن أسب الزمان، لأنه مثل المكان يتلقي عبث البشر وغواياتهم، لكني أشير إلي مساحة الفضاء العريض من النسيان التي يتعرض له صبري موسي، وإن كان قد لقي التقدير من الداخل والخارج وترجمت أعماله إلي عدة لغات، لكنه يستحق أن نحتفي بعيد ميلاده وأن نؤنس وحدته، ويستحق أن تقام له الحلقات الدراسية في هيئة قصور الثقافة وهيئة الكتاب والمجلس الأعلي للثقافة، وأن تطبع كتبه وأن تطل عليه عيون الأجيال الجديدة من عشاق الأدب، فرغم المرض الذي يترصده منذ سنوات وتوقفه عن الكتابة، فإن أعماله لم تفقد وهجها، وما زالت تفوح بعطرها وتعلن عن حضورها الآسر.. متعه الله بالصحة وأبقاه بيننا كاتبا وإنسانا ومصباحا مضيئا بنور الإبداع الذي لا يعرف الشحوب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق