عمرة الدار...أسطرة الواقع... امتزاج الأضداد
محمود رمضان الطهطاوي
في قالب روائي تقليدي محكم ، وبسرد متنامي يمزج بين الواقع والخيال ، يمزج الحلم بالحقيقة ، فيدخلنا في عالم خلاب وجاذب ومشوق .. ترتحل بنا " هويدا صالح " عبر روايتها " عَمْرِة الدار " الصادرة عن إقليم القاهرة الكبرى وشمال الصعيد 2007م ، مازجة بين الغرائبي والواقعي في كل الأحداث ، لتحول الخرافة إلى حقيقة معاشة ، وتجسد لنا عالم من عوالم القرية التي كانت تنهل من الخرافة رفيقاً يساعدها على الحياة البسيطة ، وتعيش الحلم على أنه واقع ، هذا المزج ترسمه الروائية بعناية في السرد من خلال حدوتة بسيطة ولكنها تطرح عالم القرية بكل ما فيه من متناقضات وحياة قبل أن تغزوه المدنية بعد الانفتاح الذي حدث في القرن الفائت فغير ملامح القرية .فالرواية بدءاً من عنوانها تدخلنا إلى عالم الأساطير والجن السفلي ، فـ " عَمْرِة الدار " هم عالم الجن الذين يعيشون مع الأسرة في المنزل مرافقاً ، صديقا حميماً مادام لم يؤذوه ولم يحاولوا إزعاجه ، هكذا تصور الرواية وتتكئ وتبرز هذا الواقع بكل أسطرته لتمزجه بالواقع ليصير جزءًا منه .الرواية تمزج بين الأضداد ، فتمزج المرئي المشاهد/ بالغيبي ، والواقع بالأسطورة ، تشطح مع التصوف وتدلف به في أرض الواقع ، في محاولة لأسطرة الواقع التي تنجح فيه الكاتبة بتلك المتقابلات التي تصنعها في سرد الرواية ، من خلال أسرة الشيخ صالح ، ذلك الرجل الذي له جذور علوية ، وسكن صعيد مصر في بداية الفتح الإسلامي ، وظل منزله ملتقى الأقطاب والمريدين والسالكين في طريق الله ، يلتقي الجميع في كما تذكر الكاتبة في بداية الرواية في " قاعة الشيخ علي كان يسميها الحاج صالح ، والمقعد البحري كما كان يسميها باقي سكان المنزل الكبير " . ، وتظل هذه القاعة سراً من أسرار المنزل ، بما يدور داخلها من لقاءات بين المريدين ، وحلقات ذكر ، والشيخ "علي " هو رمز للأسطورة المقدسة ، يلازم كل أفراد الأسرة ، فنجد الحاجة دولت زوجة الشيخ صالح عندما غلبها النعاس جاءها الشيخ صالح وشاهدته يطفئ مصباح القاعة ويغادر المنزل ، نادته فلم يرد عليها ، استيقظت مرعوبة ، وعندما تحكي للشيخ صالح يؤكد لها انه لا يأتي " في المنام زعلان بالشكل ده إلا علشان ميعاد الختمة اللي اتاخر " .وتواصل الكاتبة اسطرة الواقع فنجد " تحية " أو " الفريصة " زوجة الابن الأكبر للشيخ صالح يركبها جني يدعي الشيخ محمد " ينزل عليها ساعة الغضب ، يظل يضربها ويمرمغها في الأرض ، حتى تخور قواها ولا تقوى على فعل شيء " .وهذا الجني يخبر الفريصة بالأحداث التي سوف تقع .أما عبد الرحيم الابن الرابع للحاج صالح " الذي وقع قديما أمام الفرن ويعتقد الجميع أن عمرة الدار ( الجنية) تلبسته ، نجده يعيش كالمجاذيب ، ثم يفاجأ الجميع بعد موت الأب بالتغير الذي حدث عندما يجلس بين الأحباب والمريدين خطيبا يخطف القلوب ، ويكتشف الجمع أن صوته مثل صوت والده " كان عبد الرحيم يتحدث والإخوان يستمعون في نشوة وصفاء ، فالحجب السماوية تنزاح والأضواء الربانية تشع " ، هذا التحول الأسطوري تصنعه الكاتب بحنكة ، فعبد الرحيم لا يخرج من حالته التي حدثت له من عشرين عاما عندما دخل " الشيخ قاعة الشيخ (علي ) ليتعبد ليلة الجمعة ، كان أهل الخطوة –كعادتهم –مجتمعين فيها للصلاة يؤمهم الخضر عليه السلام بعد انقضاء الصلاة والذكر تركوا القاعة غارقة في نور رباني كما الشمس الساطعة . دخل الشيخ يصلي الفجر في القاعة سجد سجوداً طويلاً يجعل الناظر إليه يعتقد أنه فارق الحياة ، وعلى عادة عبد الرحيم الذي كان يواظب على الصلاة وخاصة صلاة الفجر رغم صغر ينه ، انسل من سريره ونزل ليتوضأ ويصلي وهو ابن السابعة التي تعداها بقليل ، رأى النور يبين من أسفل باب القاعة دخل ، بهره الضوء الساطع ، تعلقت روحه بهذا الضوء ، سجد بجانب أبيه وسمع صوتاً يناديه (لقد سجد قلبك لله لا ترفع رأسك أبداً من سجدته ، ثبت قلبك على السجود ولا تسمح له أن ينقلب من حال ) .. "آثرت أن أنقل هذا المشهد لما يجسده من امتزاج بين الواقع والأسطوري ، تلك الأسطرة التي تعتمد عليها بناء الرواية .أما لماذا عاد عبد الرحيم إلى طبيعته بعد موت الأب مباشرة ، فالكاتبة ترسم ذلك بوعي ، فهي تحاول المحافظة على تماسك الأسرة حتى لا ينفرط العقد ، هذا العقد الذي حاول الشيخ صالح المحافظة عليه وحزن كثيرا عندما قام ابنه البكر عنتر لأن زوجته تحدث مشاكل من نساء الدار من أثر الجن الذي يركبها ، " وافق الشيخ على انتقال ابنه البكر ، وهو مرعوب ، أن تكون هذه بداية انفلات حبات العقد الذي حرص على لضمه طوال السنين " ، أما النضر الابن الثالث للشيخ صالح فهو يعيش حياة مستهترة ويجري وراء النساء ، نجده يسخر من رواد قاعة الشيخ علي ، وكان الناس ينادونه بالحاج نضر وهو " ابعد ما يكون عن الحج والحجاج " ولكن سرعان ما يتحول عندما كان عائدا إلى وهو تحت تأثر الحشيش وتخيل منظر الأولياء وهم يشربون المعسل والحشيش ، وفجأة رأى رجلاً لا يعرف من أتى متجهاً نحوه ويقول له : وصل بك الأمر أن تتعدى على رجال الله ، حاول أن يعرف من هذا الرجل ، ولكن الرجل واصل تهديده له وصرخ صرخة عاتية مملوءة بالغضب ، وبعد محاورة اعتذر النضر وهب على المكان نسيم ملك على النضر كيانه ، وتمتم الرجل بتسابيح مبهمة ، وترك النضر متسمرا مكانه ، وسرعان ما تحول النضر ، ودخل في زمرة المريدين ، واستأذن والده أن يرحل إلى مصر بجوار أهل البيت ، وهناك عمل بالتجارة وعرف بتقواه وورعه ، وابتعد عن حياة الضياع . وهكذا ترسم لنا الكاتبة كل الرواية على هذا المنوال ، فتمزج الغرائبي بالواقع ، وتتقابل الأضداد ، وتظهر الخرافة جلياً ، فهي التي تحرك الحدث وتصنعه ، فقبل أن يموت الحاج صالح نجد أن ضوء شديد غمر الدار وانطفأ فجأة ، وعندما تموت الحاجة دولت زوجة الشيح (صالح ) تقوم بدورها (فاطمة ) ، والتي تربط موتها بالخيال الجامح فقد أحست قبل موتها بكسر ضرسها الكبير ، ويؤكد لها والدها بأنه أيضا شاهد ضرسه الكبير ينكسر في الحلم .أما عمرة الدار والتي يتكأ عليها اسم الرواية ، فنجد الرواية تجسد حركاتهم وسكناتهم في لب الرواية فهم جزء من كيان البيت ، يعيشون معهم كأنهم جزء لا يتجزأ من البيت ، يتركون الكوب على الزير ليشربوا مثلهم ، وكثيرة هي المشاهد التي تجسد تلك المتقابلات بين الأضداد عالم الأنس والجن ، وكأنهم عالم واحد ، فهكذا يتمزج المشاهد بالغيبي ، ويتحول الأسطوري إلى واقع ، وتشطح الصوفية في عوالم الرواية لتبرز لنا عالما واحدا منصهرا وممتزجا في بعضه لا نستطيع فصله .لاشك أن الكاتبة حبكت لنا عالماً روائيا مثيراُ ، في قالب محكم ، وسرد متنامي تداخل فيه المحسوس والمرئي ، مع اللامحسوس والغيبي ونجحت في التقابل /التداخل ، واستطاعت اسطرة الواقع ، ولكن ما يعيب الرواية هو تدخل الكاتبة في سياق الرواية بتلك الإشارات التي كثرت في الرواية لتنبأنا بما سيحدث للأشخاص ، فعلى سبيل المثال نجدها تقول : " تدرك أن عمر يضع عينه على صباح ابنة شيخة محفظة القرآن ، عرفت ذلك من وداد صاحبة فاطمة والتي ستصير صديقة لصباح فيما بعد ، تساندها وتكتم أسرارها " .وفي موضع آخر تقول وهي تتحدث عن الفريصة " وفيما بعد حين تتزوج صباح من عمر وتحمل منه ويقترب موعد الولادة, تؤكد لعنتر أن ما في بطنها أنثى " .ونجد مثل هذا عندما تتحدث عن نضر ، وعن عبد الرحيم ، ولاشك أن القارئ لا يريد أن يسبق ألأحداث ، بل يريد أن يقرأ ويكتشف ، فتلك التدخل لا يضيف إلى الرواية ، بقدر ما هو تدخل غير مرغوب في الحدث .لقد استفادت الكاتبة من الموروث الشعبي ووظفت جيدا في سياق الحدث مثل " العدودة " و " أناشيد الأطفال " والموروث الشعري الصوفي ، كل هذا أعطى للحدوتة روح ونكهة .كما تبرز الرواية المرأة الصعيدية الصلدة ، التي تواجه معترك الحياة ،متمثلة في نبوية التي وهبت نفسها لخدمة مقام الشيخ علي بعد موت زوجها وأبيها ورفضت كل عروض الزواج رغم أنها لم تدخل على عريسها الذي قتل ، وفاطمة أيضاً بعد موت مقتل زوجها ترفض كل عروض الزواج وتفتح محل بقالة لترعى أولادها ، وفايزة زوجة النضر نجدها تسعى لزواج زوجها من زبيدة التي عشقها ، وتكتفي بوجوده بجوارها ، وخدمة البيت وترفض أن يلمسها ، وعندما تموت زبيدة بعد ولادة ابنتيها التوأم ترعي الطفلتين .ليس هذا فقط بل تبرز الرواية دور الحاجة دولت زوجة الحاجة فاطمة في إدارة شئون البيت ، ورعايته ، وتتسلم الراية من بعدها ابنتها صباح وتحذو حذوها ، وتحرص على البيت كما تفعل أمها ، وترعي المحسوس واللا محسوس " صباح تزداد شبهاً بالحاجة دولت ، صارت أماً لكل من يدخل المنزل .. توطدت العلاقة بينها وبين عمرة الدار . صارت تفعل لها كل الطقوس اللازمة لجعل العلاقة يشوبها الرضا والسلام ؛ حتى لا تؤذي أحداً من العائلة " . وهكذا يتداخل المرئي والغيبي ويتشابك في ثنايا الرواية ، ويصنع الحدث/ الدهشة .إن " عمرة الدار" رواية بكل ما تقدمه من جماليات الفن الروائي ، وغرائبية السرد ، وأسطرة الواقع ، بدءًا من العنوان ( عمرة الدار ) / البوابة ، وولوجاً إلى السرد والبناء وما يطرحه من أسطرة للواقع في مقابلات تصنعها الروائية بحرفية وحنكة ، والرواية في مجملها تحمل قيمة لأنها تؤرخ لعالم القرية الذي كان ، تجسد حياة حقيقة بكل ما تحمله من متناقضات ، وما تمزجه من اسطره على الواقع العيش ، وما بكل ما تطرحه من خرافة لكنه واقع كانت تعيشه القرية المصرية ، ومازالت بعض القرى في ريفنا على هذا المنوال ان الرواية تحمل الكثير من الدلالات ، وتفتح دروبها وشوارعها لكثير من الـتأويلات ، فيمكن دخولها من أبواب عدة ، فهي رواية ثرة ، تحتمل الكثير من الرؤى ، وتحتاج إلى مساحة أكبر من أن تتحملها تلك النظرة السريعة ، العجلى .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق