محطات كاشفة في رحلة صبري موسي الأدبية
فتحى عامر
هذا الحديث إلى التوقف عند محطات كاشفة فى رحلة أدبية عمرها نصف قرن، والهدف.. سبر أغوار هذه الرحلة، والكشف عن الأسئلة الأساسية التى ألحت عليها وتحكمت فى مسيرتها الفكرية والفنية.. صاحب الرحلة هو الروائى والقاص وكاتب السيناريو صبرى موسى والبداية كانت مع السنوات الأولى لعقد الخمسينيات من القرن العشرين، كانت الأنواع الأدبية تشق طريقا جديدا يتواكب مع المتغيرات السياسية والاجتماعية التى شملت الوطن العربى كله وعبرت عنها ثورة يوليو، وكانت القصة القصيرة والرواية والشعر فى سباق للإجابة علن أسئلة التحديث، وكان صبرى موسى وهو يكتب قصصه القصيرة الجديدة على رأس المجددين فى هذا الإبداع الفريد.. وعندما كتب روايته الفاتنة فساد الأمكنة فى السبعينيات أحدثت هزة فى الرواية العربية عبّرت عنها وماتزال عشرات الدراسات الجادة..، قبل ذلك كتب صبرى موسى روايته حادث النصف متر التى أحدثت أزمة فى البرلمان لجرأتها. وفى الثمانينيات روايته السيد من حقل السبانخ وهى رواية تعكس الخلل فى الحياة البشرية المعاصرة نتيجة التقدم العلمى الهائل والتخلف الروحى المهول. وصبرى موسى أصدر عدة مجموعات قصصية وله عدة كتب فى أدب الرحلات، وكتب السيناريو والحوار لعدد من الأفلام الشهيرة مثل البوسطجى وقنديل أم هاشم وهو من مواليد دمياط عام 1932 ويعمل بالصحافة منذ عام 1954 وكان من المجموعة المؤسسة لمجلة صباح الخير. مؤخرا تعرض صبرى موسى لأزمة حادة ومباغتة أحدثت قلقا واسعا فى الوسط الأدبى حيث تعرض للإصابة بجلطة فى المخ وخضع لبرنامج علاجى مكثف كلل بالنجاح لكنه مازال يخضع لبرنامج علاج طبيعى للقضاء على الآثار الجانبية. قلت له: -عندما بدأت الكتابة الأدبية فى أوائل الخمسينيات تقريبا كنت تسمى ما تكتبه حكايات وأحيانا قصص قصيرة ما سبب هذه الحيرة؟. -- فى الوقت الذى كتبت فيه القصة القصيرة فى أعوام 1950، 52 كان التيار القصصى السائد يتمثل فى رومانسية يوسف السباعى وإحسان عبدالقدوس وواقعية محمود البدوى وأمين يوسف غراب، وكان هناك محمود كامل المحامى بأسلوبه المعروف وكانت هذه التيارات جميعا قد بدأت تحاول التمرد على التيار الرومانسى الذى بدأت به القصة القصيرة فى أوائل الأربعينيات، وخلط هذا التمرد الرومانسية بالواقعية، حتى قامت ثورة يوليو، وهى تحمل فكرة العدل الاجتماعى وإنصاف الطبقات المطحونة، وبدأ تيار جديد من الواقعية الاشتراكية يسود القصص المنتج فى تلك الأيام. وكنت ألاحظ أن القصص القصيرة أو تعبير القصة القصيرة لم يكن متحققا، فأحيانا تطول القصة وتمتلئ بالأحداث وتخرج فى كثير من الأحيان عن وحدة اللحظة ووحدة الشخصية، وتكاد تقترب من الرواية، ولاحظت أيضا فيما أكتب الميل إلى التركيز والتحديد والارتباط بلحظة زمنية مختارة وموقف نفسى محدد تواجهه الشخصية الإنسانية. لعل هذا قد حدث بحكم طبيعتى التى لا تميل إلى الثرثرة، وطريقتى الذهنية فى مواجهة الحياة والتى تميل إلى التوقف عند التفاصيل الصغيرة، وكثيرا ما كنت أرى فى هذه التفاصيل الصغيرة الدقيقة عوالم حافلة بالعناصر الدرامية. - هذا عن القصص فماذا عن الحكايات؟ هل كانت شكلا جديدا من القصص غير مسبوق وما هى منابع تجربتك الخاصة فى هذه الحكايات؟. -- كان للعمل الصحفى تأثيره الكبير فى توافر العناصر القصصية بحكم تنوع البيئات والأمكنة التى كنت أتحرك فيها، ففى فترة من الفترات بدأت فى العام الأول من الستينيات كنت كثير السفر، بل إننى أيضا فى كثير من الأحيان كنت أسافر دونما سبب سوى فكرة الانتقال والرؤية أى السفر نفسه: مثلا كثيرا ما كنت اتخير عشوائيا بلدا من البلاد المصرية الموجودة فى دليل السكك الحديدية!. بلدة أو قرية أو مركز من المراكز التى يمر بها القطار، فأقضى بها يوما أو يومين حسب إمكانات تلك البلدة، وأذهب إلى الأسواق، وأحتك بالناس، واستمع إلى حوارات المقاهى، وأتأمل نماذجها البشرية. وغالبا ما كنت أعود من تلك الرحلة بقصة أو بعديد من القصص. تلك كانت فترة الاختبار والتجريب وقد أنتجت أكثر من مائة قصة اخترت نصفها تقريبا، وأصدرته فى كتاب عنوانه حكايات صبرى موسى. - لماذا اخترت هذا العنوان؟. -- بسبب الاسلوب أو الأساليب التى تعددت وتنوعت فى سرد تلك القصص. فبعضها كتب بطريقة المسرح، وبعضها كتب بطريقة السيناريو السينمائى، وبعضها كتب بطريقة النادرة العربية، وبعضها كتب بطريقة الراوى الشعبى، ولكنها كانت تتميز جميعا بالعنوان الصحفى الطويل المثير مثل: الخباز وزوجته التى تخرج كل يوم أو طويل عريض على الفاضى أوالأفندى ضحك على الحصان وهكذا. وكانت تتميز أيضا بالسرد البسيط المركز الذى يلخص ويومئ ويوحى ويشرك القارئ فى استكمال الكثير مما هو غائب عن الكتابة، وكانت تتميز أيضا بتدفق الشخصيات والوقائع كموج زاخر فى بحر الحياة المصرية العارم، وقد حاولت أن أقدمها فقلت إنها حكايات دنيوية مزدحمة بالحوادث والمفاجآت، حكاية للضحك، حكاية للبكاء، ونسبتها إلى نفسى باسم حكايات صبرى موسى لأنها كانت تجربة فى الكتابة غير مسبوقة بنموذج يقاس عليه. - كان بإمكانك أن تسمها قصصا فلماذا لم تفعل؟ وما موقف النقاد منها؟. -- تجنبت أن اسميها قصصا حتى أجنب النقاد من الغرق فى إثبات أنها ليست من النوع السائد من القصص القصيرة. أو أنها خرجت عن التقاليد المتبعة فى السرد القصصى أو أنها، أو أنها.. وتركت لهم الفرصة للنظر فى هذا الشكل كما هو، ومحاولة تصنيفه.. وقد نجحت تلك الخطة فعلا فى إثمار عدد من التحليلات والدراسات التى كتبها كتاب أو نقاد متمرسون، مثل الأديب يوسف الشارونى الذى نسبها إلى النادرة العربية، واعتبرها تحديثا لذلك الفن الأدبى، ومثل الدكتور صبرى حافظ الذى اعتبرها اكتشافا لجذور القصص العربى، الذى كانت تفتقده القصص القصيرة العربية التى استمدت أشكالها الشائعة من القصص الغربى ومثل الدكتور مجدى توفيق، الذى اعتبرها كتابة ضد الكتابة، التى يتبادلها المثقفون ولا يستطيع العامة التى تدور حولهم القصص أن يشاركوا بقراءتها، فهى تستمد أسلوبها فى السرد والحكى والتنوير من نفس الأساليب، وبنفس الطريقة التى يتداولها العامة من الناس، فهى كتابه بهم ولهم. ومثل دراسة الأستاذ كمال النجمى التى تؤكد أنها قصص قصيرة مائة فى المائة بل إنها من أحسن القصص القصيرة التى تنشر الآن. - من خلال تجربتك الشخصية كأديب وصحفى، إلى أى مدى استطاعت الصحافة أن تطبع بصماتها الأسلوبية على القصة القصيرة خصوصا، والأدب عموما؟. -- فن القصص القصيرة نشأ أولا بسبب الصحافة ورغم ذلك فقد ظل فنا ثقافيا، ولكنه فى أساليبه وطريقة سرده ظل متعاليا ومنفصلا عن مستويات القراء، ومع تطور الصحافة واتساع انتشارها بدأت تتخلى عن أساليبها اللغوية التى اكتسبتها من بداياتها بالشعر والقصة والمقالات الأدبية، لقد أصبحت خبرية وأصبحت مباشرة فى التقاطها للوقائع والحوادث ونقلها إلى الناس، واستطاعت أن تخلق لنفسها تلك الأساليب الحديثة السريعة، التى تحقق سرعة توصيل الرسالة. لقد استطاعت تلك الأساليب التى تعتمد على السرعة والتركيز المشوق أن توثر فى الأدباء الذين يكتبون القصص الأسبوعى للصحافة. ونجح بعضهم فى أن يمزج تلك الأساليب بالأدب فاحتفظ بالفن اللغوى، وتخلص من الجزالة والإطناب والثرثرة اللغوية التى لا طائل من ورائها. - لاحظت اختلاط الزمان وتداخله فى قصصك القصيرة، ولاحظت أيضا أنك تبنى هذه القصص دائما على معادلة تنتهى بالهزيمة.. فلماذا؟. -- المشكلة الإنسانية فى الحقيقة هى الزمن، فالإنسان يطرح فى الوجود ليخوض سباقا ضاريا مع هذا الزمن، وعندما يواجه موقفا فإن العقل البشرى لا يعمل فى إطار اللحظة الراهنة فقط، ذلك لأن ذاكرة العقل تستحضر بسرعة فائقة الزمن الماضى، وتنطلق بسرعة فائقة أيضا لتصور المستقبل الذى سينتج عن تلك اللحظة، وهكذا ترى أن الإنسان بالفعل يعيش الماضى والحاضر والمستقبل خلال سباقه الزمنى هذا الذى يعرف جيدا أنه قد ينتهى فجأة دونما إنذار وينتهى بذلك وجوده. بالامل فهو إذن سياق محكوم بالهزيمة فى كل الأحوال. - يبدو أن المكان هو البطل فعلا فى روايتك فساد الأمكنة نحن أمام جغرافيا متوحشة إذا صح التعبير: صحراء شاسعة وجبال شاهقة تثير الرهبة ومكان كله مكتظ بالمفاجآت، وبشر من نوع آخر يعيشون فيه، هل لهذا المكان علاقة بحياتك؟. -- عشت طفولتى فى صحراء صغيرة.. هذه الصحراء الصغيرة كانت تضم حقولا حافلة بالأشجار والزرع، وتضم فرعا رئيسيا من النيل، وتضم مساحة هائلة كبحيرة، ويحدها من جانب: البحر المالح، هى جزء من الدلتا، أو هى طريق الدلتا الشمالى الشرقى، وكل ما احتوته من ذرع ومياه عذبة أو مالحة منتزعة من تلك الصحراء. لقد عشت فى وسط مائى، ولكن الرمل الأصفر الممتد بلا نهاية كان يحيط بى ليذكرنى أننى رغم هذا كله فى صحراء، ولعلك تلاحظ أن هذه الصحراء الصغيرة تحيط بغالبية البلاد المصرية جميعا حتى فى داخل الدلتا.. ولهذ كانت دهشتى الكبرى وكان انفعالى حينما رأيت الصحراء الحقيقية: الأصل: بجبالها وهضابها وسهولها ووديانها وصخورها ورمالها، وأيضا بنوع الحياة الشاقة المحفوفة بالمخاطر التى يمارسها نوع مختلف من البشر. وكانت هذه الصحراء هى وجبل الدرهيب، مكان الرواية. - تقصد الصحراء الشرقية فى جنوب مصر التى كتبت فيها فساد الأمكنة، ومع ذلك يظل السؤال: كيف واجهت تلك الصحراء وهل ذهبت إليها فى البداية بهدف كتابة رواية؟. -- واجهت تلك الصحراء بشخصيتين: الأولى هى الصحفى المحمل بمسئولية الكشف عن نقائص الحياة البشرية وسوءاتها، فى الجغرافيا والبشر ووسائل الإدارة.. وكانت تلك الصحراء الشرقية التى تفصل بين مصر والسودان أو التى تربط مصر بالسودان جديدة علينا بعد اتفاقية الجلاء التى أزاحت المستعمر عن الأرض المصرية فى السويس والهايكستب والسخنة وما وراءها، وفتحت البوابة لدخول تلك الصحراء فى شهورها الأولى لعودتها إلينا، دخلت فى مهمة صحفية لتنبه المسئولين والناس لما تحتاجه تلك الصحراء لكى تدب فيها الحياة وتثمر خيرا وفيرا للوطن. وطوال هذا العمل الصحفى المسئول المهموم بالواقع كانت الشخصية الثانية بداخلى، وهى شخصية الأديب أو الفنان، تشارك وتراقب وترى وتنفعل، وتستخدم الخيال فى التحليق. الخيال الذى لم يكن له مكان فعال فى الأداء الصحفى، وظلت تلك الشخصية تقوم بعملها المستقل فى العقل الباطن حتى إذا ما انتهى الصحفى من مهمته وأدى رسالته التى عادت بأثر كبير على الواقع الجغرافى والبشر، بدأت تلك الشخصية الثانية فى الانفراد بالساحة، وبدأ الخيال يتجسد فى أفكار ورؤى وهواجس كعادة اللاوعى فى تقليب الفهم، ثم وجدتنى مشدودا إلى إفراغ الذاكرة الداخلية هذه من هواجسها الفنية فكانت فساد الأمكنة. - لماذا انتهت مصائر كل الشخصيات تقريبا فى فسا الأمكنة بهذه النهايات المأساوية؟. -- أريد أن أؤكد لك أن المأساة فى النهاية لم تكن مخططة أو مصممة منذ البداية، على أن تنتهى تلك النهاية المأساوية.. الذى يحدث هو أننى أبدأ بالشخصيات وبحدث يتحرك بهذه الشخصيات، ويواصل نموه وتطوره، وحين تجئ النهاية فإنها تكون نتاجا طبيعيا لحركة الشخصيات التى تقود الحدث والأحداث عندما يكتمل لها النضج وتصبح مستقلة بالفعل عن المخيلة القصصية، إنها هى تلك الشخصيات التى تقود الحوادث إلى نهياتها الحتمية. - فى رواية فساد الأمكنة التى تدور أحداثها فى الصحراء الشرقية الوعرة أليس غريبا أن تنتهى حياة أيسا ذلك البدوى. المرتبط بالمكان، نفس النهاية المأساوية لحياة نيكولا ذلك الأوروبى المهاجر أبدا والذى لا يتعلق قلبه بمكان؟. -- ربما لأن المكان نفسه بالصورة التى رأيتها عليه كان مكانا مأساويا، ولك أن تتصور نفسك تمشى على رمال قد يخرج منها فى لحظة عقربا أو ثعبانا رغم أنك تمشى مسافات طويلة هائلة لتبحث عن جرعة ماء. - يبدو أن رواية السيد من حقل السبانخ التى جاءت بعد فساد الأمكنة لم يشغلها فساد المكان بقدر ما شغلها فساد الروح الإنسانية المواكبة للتقدم العلمى والتكنولوجى.. ما هى الأسئلة التى كانت تلح عليك أثناء كتابة هذه الرواية؟. -- المشكلة الحقيقية أن النوع الإنسانى مايزال يحتضر بالغرائز القديمة البدائية التى كانت ضرورة له حينما كان يعيش فى الجبال والغابات بين المخلوقات الأخرى المتوحشة، وفى حين أن تلك الغرائز البدائية ضرورة لتلك المخلوقات منذ الزمن القديم وحتى الآن لتساعدها على الاستمرار فى الحياة، فإنها أى تلك الغرائز، أصبحت غير مفيدة للإنسان الذى استطاع أن يتطور بعقله، وأن يمتلك الأرشيفات الورقية، والتكنولوجية والاليكترونية الحافلة بكل التجارب والحكم والخبرات السابقة، وبالنتائج والمدلولات والتوجيهات المطلوبة لاستمرار الحياة، بل إنها تلك الغرائز قد أصبحت تعمل بطريق عكس هذا الإنسان وتطوره. لذلك نلاحظ أن هذا النوع البشرى الذى ارتقى بالعقل و هذب الغرائز وروضها وامتلك من الأدوات التى اخترعها بعقله ما سيده على الطبيعة فروضها واستخرج خيراتها لصالحه ووصل من العلم لدرجة الإلمام بالكثير من معارف الكون الذى يحيط به. إذا بنا نفاجأ بهذا الإنسان لايزال غارقا فى الصراع الدموى المدمر الذى تشعله تلك الغرائز القديمة التى كانت دليله الوحيد للحياة فى الغابة الفطرية المتوحشة. ألا يعنى ذلك أن هناك خطأ ما فى المسيرة البشرية، وأنه يجب التوقف والبحث عن وسيلة جديدة للقضاء على تلك الغرائز التى عجز التطور وعجزت الأخلاق عن مواجهتها ذلك كان السؤال الملح الذى دفعنى لكتابة السيد من حقل السبانخ. - البعض يرى أنها من روايات الخيال العلمي؟. -- لم تكن السيد من حقل السبانخ تنتسب فى كتابتها إلى الخيال العلمى، بقدر ما كانت رواية علمية تستشرف المستقبل، من استنتاج التطور الطبيعى للنظريات العلمية، وكذلك التطور الطبيعى لما يحدث الآن فى الحياة البشرية من علاقات ووقائع ولعلها حين اكتملت كتابتها فى بداية عام 1982 حملت العديد من النبؤات التى تحقق الكثير منها الآن، مثل التليفونات المحمولة واكتشاف الاستنساخ البشرى وغيرها من وسائل وأدوات الحياة اليومية، إلا أنها كانت تحمل أيضا إنذارا لما يتهدد النوع البشرى من خراب ودمار فى المستقبل إذا لم يسرع بالفعل إلى مواجهة حاسمة فى تلك الغرائز القديمة التى أصبحت تضره أكثر مما تنفعه.
فتحى عامر
هذا الحديث إلى التوقف عند محطات كاشفة فى رحلة أدبية عمرها نصف قرن، والهدف.. سبر أغوار هذه الرحلة، والكشف عن الأسئلة الأساسية التى ألحت عليها وتحكمت فى مسيرتها الفكرية والفنية.. صاحب الرحلة هو الروائى والقاص وكاتب السيناريو صبرى موسى والبداية كانت مع السنوات الأولى لعقد الخمسينيات من القرن العشرين، كانت الأنواع الأدبية تشق طريقا جديدا يتواكب مع المتغيرات السياسية والاجتماعية التى شملت الوطن العربى كله وعبرت عنها ثورة يوليو، وكانت القصة القصيرة والرواية والشعر فى سباق للإجابة علن أسئلة التحديث، وكان صبرى موسى وهو يكتب قصصه القصيرة الجديدة على رأس المجددين فى هذا الإبداع الفريد.. وعندما كتب روايته الفاتنة فساد الأمكنة فى السبعينيات أحدثت هزة فى الرواية العربية عبّرت عنها وماتزال عشرات الدراسات الجادة..، قبل ذلك كتب صبرى موسى روايته حادث النصف متر التى أحدثت أزمة فى البرلمان لجرأتها. وفى الثمانينيات روايته السيد من حقل السبانخ وهى رواية تعكس الخلل فى الحياة البشرية المعاصرة نتيجة التقدم العلمى الهائل والتخلف الروحى المهول. وصبرى موسى أصدر عدة مجموعات قصصية وله عدة كتب فى أدب الرحلات، وكتب السيناريو والحوار لعدد من الأفلام الشهيرة مثل البوسطجى وقنديل أم هاشم وهو من مواليد دمياط عام 1932 ويعمل بالصحافة منذ عام 1954 وكان من المجموعة المؤسسة لمجلة صباح الخير. مؤخرا تعرض صبرى موسى لأزمة حادة ومباغتة أحدثت قلقا واسعا فى الوسط الأدبى حيث تعرض للإصابة بجلطة فى المخ وخضع لبرنامج علاجى مكثف كلل بالنجاح لكنه مازال يخضع لبرنامج علاج طبيعى للقضاء على الآثار الجانبية. قلت له: -عندما بدأت الكتابة الأدبية فى أوائل الخمسينيات تقريبا كنت تسمى ما تكتبه حكايات وأحيانا قصص قصيرة ما سبب هذه الحيرة؟. -- فى الوقت الذى كتبت فيه القصة القصيرة فى أعوام 1950، 52 كان التيار القصصى السائد يتمثل فى رومانسية يوسف السباعى وإحسان عبدالقدوس وواقعية محمود البدوى وأمين يوسف غراب، وكان هناك محمود كامل المحامى بأسلوبه المعروف وكانت هذه التيارات جميعا قد بدأت تحاول التمرد على التيار الرومانسى الذى بدأت به القصة القصيرة فى أوائل الأربعينيات، وخلط هذا التمرد الرومانسية بالواقعية، حتى قامت ثورة يوليو، وهى تحمل فكرة العدل الاجتماعى وإنصاف الطبقات المطحونة، وبدأ تيار جديد من الواقعية الاشتراكية يسود القصص المنتج فى تلك الأيام. وكنت ألاحظ أن القصص القصيرة أو تعبير القصة القصيرة لم يكن متحققا، فأحيانا تطول القصة وتمتلئ بالأحداث وتخرج فى كثير من الأحيان عن وحدة اللحظة ووحدة الشخصية، وتكاد تقترب من الرواية، ولاحظت أيضا فيما أكتب الميل إلى التركيز والتحديد والارتباط بلحظة زمنية مختارة وموقف نفسى محدد تواجهه الشخصية الإنسانية. لعل هذا قد حدث بحكم طبيعتى التى لا تميل إلى الثرثرة، وطريقتى الذهنية فى مواجهة الحياة والتى تميل إلى التوقف عند التفاصيل الصغيرة، وكثيرا ما كنت أرى فى هذه التفاصيل الصغيرة الدقيقة عوالم حافلة بالعناصر الدرامية. - هذا عن القصص فماذا عن الحكايات؟ هل كانت شكلا جديدا من القصص غير مسبوق وما هى منابع تجربتك الخاصة فى هذه الحكايات؟. -- كان للعمل الصحفى تأثيره الكبير فى توافر العناصر القصصية بحكم تنوع البيئات والأمكنة التى كنت أتحرك فيها، ففى فترة من الفترات بدأت فى العام الأول من الستينيات كنت كثير السفر، بل إننى أيضا فى كثير من الأحيان كنت أسافر دونما سبب سوى فكرة الانتقال والرؤية أى السفر نفسه: مثلا كثيرا ما كنت اتخير عشوائيا بلدا من البلاد المصرية الموجودة فى دليل السكك الحديدية!. بلدة أو قرية أو مركز من المراكز التى يمر بها القطار، فأقضى بها يوما أو يومين حسب إمكانات تلك البلدة، وأذهب إلى الأسواق، وأحتك بالناس، واستمع إلى حوارات المقاهى، وأتأمل نماذجها البشرية. وغالبا ما كنت أعود من تلك الرحلة بقصة أو بعديد من القصص. تلك كانت فترة الاختبار والتجريب وقد أنتجت أكثر من مائة قصة اخترت نصفها تقريبا، وأصدرته فى كتاب عنوانه حكايات صبرى موسى. - لماذا اخترت هذا العنوان؟. -- بسبب الاسلوب أو الأساليب التى تعددت وتنوعت فى سرد تلك القصص. فبعضها كتب بطريقة المسرح، وبعضها كتب بطريقة السيناريو السينمائى، وبعضها كتب بطريقة النادرة العربية، وبعضها كتب بطريقة الراوى الشعبى، ولكنها كانت تتميز جميعا بالعنوان الصحفى الطويل المثير مثل: الخباز وزوجته التى تخرج كل يوم أو طويل عريض على الفاضى أوالأفندى ضحك على الحصان وهكذا. وكانت تتميز أيضا بالسرد البسيط المركز الذى يلخص ويومئ ويوحى ويشرك القارئ فى استكمال الكثير مما هو غائب عن الكتابة، وكانت تتميز أيضا بتدفق الشخصيات والوقائع كموج زاخر فى بحر الحياة المصرية العارم، وقد حاولت أن أقدمها فقلت إنها حكايات دنيوية مزدحمة بالحوادث والمفاجآت، حكاية للضحك، حكاية للبكاء، ونسبتها إلى نفسى باسم حكايات صبرى موسى لأنها كانت تجربة فى الكتابة غير مسبوقة بنموذج يقاس عليه. - كان بإمكانك أن تسمها قصصا فلماذا لم تفعل؟ وما موقف النقاد منها؟. -- تجنبت أن اسميها قصصا حتى أجنب النقاد من الغرق فى إثبات أنها ليست من النوع السائد من القصص القصيرة. أو أنها خرجت عن التقاليد المتبعة فى السرد القصصى أو أنها، أو أنها.. وتركت لهم الفرصة للنظر فى هذا الشكل كما هو، ومحاولة تصنيفه.. وقد نجحت تلك الخطة فعلا فى إثمار عدد من التحليلات والدراسات التى كتبها كتاب أو نقاد متمرسون، مثل الأديب يوسف الشارونى الذى نسبها إلى النادرة العربية، واعتبرها تحديثا لذلك الفن الأدبى، ومثل الدكتور صبرى حافظ الذى اعتبرها اكتشافا لجذور القصص العربى، الذى كانت تفتقده القصص القصيرة العربية التى استمدت أشكالها الشائعة من القصص الغربى ومثل الدكتور مجدى توفيق، الذى اعتبرها كتابة ضد الكتابة، التى يتبادلها المثقفون ولا يستطيع العامة التى تدور حولهم القصص أن يشاركوا بقراءتها، فهى تستمد أسلوبها فى السرد والحكى والتنوير من نفس الأساليب، وبنفس الطريقة التى يتداولها العامة من الناس، فهى كتابه بهم ولهم. ومثل دراسة الأستاذ كمال النجمى التى تؤكد أنها قصص قصيرة مائة فى المائة بل إنها من أحسن القصص القصيرة التى تنشر الآن. - من خلال تجربتك الشخصية كأديب وصحفى، إلى أى مدى استطاعت الصحافة أن تطبع بصماتها الأسلوبية على القصة القصيرة خصوصا، والأدب عموما؟. -- فن القصص القصيرة نشأ أولا بسبب الصحافة ورغم ذلك فقد ظل فنا ثقافيا، ولكنه فى أساليبه وطريقة سرده ظل متعاليا ومنفصلا عن مستويات القراء، ومع تطور الصحافة واتساع انتشارها بدأت تتخلى عن أساليبها اللغوية التى اكتسبتها من بداياتها بالشعر والقصة والمقالات الأدبية، لقد أصبحت خبرية وأصبحت مباشرة فى التقاطها للوقائع والحوادث ونقلها إلى الناس، واستطاعت أن تخلق لنفسها تلك الأساليب الحديثة السريعة، التى تحقق سرعة توصيل الرسالة. لقد استطاعت تلك الأساليب التى تعتمد على السرعة والتركيز المشوق أن توثر فى الأدباء الذين يكتبون القصص الأسبوعى للصحافة. ونجح بعضهم فى أن يمزج تلك الأساليب بالأدب فاحتفظ بالفن اللغوى، وتخلص من الجزالة والإطناب والثرثرة اللغوية التى لا طائل من ورائها. - لاحظت اختلاط الزمان وتداخله فى قصصك القصيرة، ولاحظت أيضا أنك تبنى هذه القصص دائما على معادلة تنتهى بالهزيمة.. فلماذا؟. -- المشكلة الإنسانية فى الحقيقة هى الزمن، فالإنسان يطرح فى الوجود ليخوض سباقا ضاريا مع هذا الزمن، وعندما يواجه موقفا فإن العقل البشرى لا يعمل فى إطار اللحظة الراهنة فقط، ذلك لأن ذاكرة العقل تستحضر بسرعة فائقة الزمن الماضى، وتنطلق بسرعة فائقة أيضا لتصور المستقبل الذى سينتج عن تلك اللحظة، وهكذا ترى أن الإنسان بالفعل يعيش الماضى والحاضر والمستقبل خلال سباقه الزمنى هذا الذى يعرف جيدا أنه قد ينتهى فجأة دونما إنذار وينتهى بذلك وجوده. بالامل فهو إذن سياق محكوم بالهزيمة فى كل الأحوال. - يبدو أن المكان هو البطل فعلا فى روايتك فساد الأمكنة نحن أمام جغرافيا متوحشة إذا صح التعبير: صحراء شاسعة وجبال شاهقة تثير الرهبة ومكان كله مكتظ بالمفاجآت، وبشر من نوع آخر يعيشون فيه، هل لهذا المكان علاقة بحياتك؟. -- عشت طفولتى فى صحراء صغيرة.. هذه الصحراء الصغيرة كانت تضم حقولا حافلة بالأشجار والزرع، وتضم فرعا رئيسيا من النيل، وتضم مساحة هائلة كبحيرة، ويحدها من جانب: البحر المالح، هى جزء من الدلتا، أو هى طريق الدلتا الشمالى الشرقى، وكل ما احتوته من ذرع ومياه عذبة أو مالحة منتزعة من تلك الصحراء. لقد عشت فى وسط مائى، ولكن الرمل الأصفر الممتد بلا نهاية كان يحيط بى ليذكرنى أننى رغم هذا كله فى صحراء، ولعلك تلاحظ أن هذه الصحراء الصغيرة تحيط بغالبية البلاد المصرية جميعا حتى فى داخل الدلتا.. ولهذ كانت دهشتى الكبرى وكان انفعالى حينما رأيت الصحراء الحقيقية: الأصل: بجبالها وهضابها وسهولها ووديانها وصخورها ورمالها، وأيضا بنوع الحياة الشاقة المحفوفة بالمخاطر التى يمارسها نوع مختلف من البشر. وكانت هذه الصحراء هى وجبل الدرهيب، مكان الرواية. - تقصد الصحراء الشرقية فى جنوب مصر التى كتبت فيها فساد الأمكنة، ومع ذلك يظل السؤال: كيف واجهت تلك الصحراء وهل ذهبت إليها فى البداية بهدف كتابة رواية؟. -- واجهت تلك الصحراء بشخصيتين: الأولى هى الصحفى المحمل بمسئولية الكشف عن نقائص الحياة البشرية وسوءاتها، فى الجغرافيا والبشر ووسائل الإدارة.. وكانت تلك الصحراء الشرقية التى تفصل بين مصر والسودان أو التى تربط مصر بالسودان جديدة علينا بعد اتفاقية الجلاء التى أزاحت المستعمر عن الأرض المصرية فى السويس والهايكستب والسخنة وما وراءها، وفتحت البوابة لدخول تلك الصحراء فى شهورها الأولى لعودتها إلينا، دخلت فى مهمة صحفية لتنبه المسئولين والناس لما تحتاجه تلك الصحراء لكى تدب فيها الحياة وتثمر خيرا وفيرا للوطن. وطوال هذا العمل الصحفى المسئول المهموم بالواقع كانت الشخصية الثانية بداخلى، وهى شخصية الأديب أو الفنان، تشارك وتراقب وترى وتنفعل، وتستخدم الخيال فى التحليق. الخيال الذى لم يكن له مكان فعال فى الأداء الصحفى، وظلت تلك الشخصية تقوم بعملها المستقل فى العقل الباطن حتى إذا ما انتهى الصحفى من مهمته وأدى رسالته التى عادت بأثر كبير على الواقع الجغرافى والبشر، بدأت تلك الشخصية الثانية فى الانفراد بالساحة، وبدأ الخيال يتجسد فى أفكار ورؤى وهواجس كعادة اللاوعى فى تقليب الفهم، ثم وجدتنى مشدودا إلى إفراغ الذاكرة الداخلية هذه من هواجسها الفنية فكانت فساد الأمكنة. - لماذا انتهت مصائر كل الشخصيات تقريبا فى فسا الأمكنة بهذه النهايات المأساوية؟. -- أريد أن أؤكد لك أن المأساة فى النهاية لم تكن مخططة أو مصممة منذ البداية، على أن تنتهى تلك النهاية المأساوية.. الذى يحدث هو أننى أبدأ بالشخصيات وبحدث يتحرك بهذه الشخصيات، ويواصل نموه وتطوره، وحين تجئ النهاية فإنها تكون نتاجا طبيعيا لحركة الشخصيات التى تقود الحدث والأحداث عندما يكتمل لها النضج وتصبح مستقلة بالفعل عن المخيلة القصصية، إنها هى تلك الشخصيات التى تقود الحوادث إلى نهياتها الحتمية. - فى رواية فساد الأمكنة التى تدور أحداثها فى الصحراء الشرقية الوعرة أليس غريبا أن تنتهى حياة أيسا ذلك البدوى. المرتبط بالمكان، نفس النهاية المأساوية لحياة نيكولا ذلك الأوروبى المهاجر أبدا والذى لا يتعلق قلبه بمكان؟. -- ربما لأن المكان نفسه بالصورة التى رأيتها عليه كان مكانا مأساويا، ولك أن تتصور نفسك تمشى على رمال قد يخرج منها فى لحظة عقربا أو ثعبانا رغم أنك تمشى مسافات طويلة هائلة لتبحث عن جرعة ماء. - يبدو أن رواية السيد من حقل السبانخ التى جاءت بعد فساد الأمكنة لم يشغلها فساد المكان بقدر ما شغلها فساد الروح الإنسانية المواكبة للتقدم العلمى والتكنولوجى.. ما هى الأسئلة التى كانت تلح عليك أثناء كتابة هذه الرواية؟. -- المشكلة الحقيقية أن النوع الإنسانى مايزال يحتضر بالغرائز القديمة البدائية التى كانت ضرورة له حينما كان يعيش فى الجبال والغابات بين المخلوقات الأخرى المتوحشة، وفى حين أن تلك الغرائز البدائية ضرورة لتلك المخلوقات منذ الزمن القديم وحتى الآن لتساعدها على الاستمرار فى الحياة، فإنها أى تلك الغرائز، أصبحت غير مفيدة للإنسان الذى استطاع أن يتطور بعقله، وأن يمتلك الأرشيفات الورقية، والتكنولوجية والاليكترونية الحافلة بكل التجارب والحكم والخبرات السابقة، وبالنتائج والمدلولات والتوجيهات المطلوبة لاستمرار الحياة، بل إنها تلك الغرائز قد أصبحت تعمل بطريق عكس هذا الإنسان وتطوره. لذلك نلاحظ أن هذا النوع البشرى الذى ارتقى بالعقل و هذب الغرائز وروضها وامتلك من الأدوات التى اخترعها بعقله ما سيده على الطبيعة فروضها واستخرج خيراتها لصالحه ووصل من العلم لدرجة الإلمام بالكثير من معارف الكون الذى يحيط به. إذا بنا نفاجأ بهذا الإنسان لايزال غارقا فى الصراع الدموى المدمر الذى تشعله تلك الغرائز القديمة التى كانت دليله الوحيد للحياة فى الغابة الفطرية المتوحشة. ألا يعنى ذلك أن هناك خطأ ما فى المسيرة البشرية، وأنه يجب التوقف والبحث عن وسيلة جديدة للقضاء على تلك الغرائز التى عجز التطور وعجزت الأخلاق عن مواجهتها ذلك كان السؤال الملح الذى دفعنى لكتابة السيد من حقل السبانخ. - البعض يرى أنها من روايات الخيال العلمي؟. -- لم تكن السيد من حقل السبانخ تنتسب فى كتابتها إلى الخيال العلمى، بقدر ما كانت رواية علمية تستشرف المستقبل، من استنتاج التطور الطبيعى للنظريات العلمية، وكذلك التطور الطبيعى لما يحدث الآن فى الحياة البشرية من علاقات ووقائع ولعلها حين اكتملت كتابتها فى بداية عام 1982 حملت العديد من النبؤات التى تحقق الكثير منها الآن، مثل التليفونات المحمولة واكتشاف الاستنساخ البشرى وغيرها من وسائل وأدوات الحياة اليومية، إلا أنها كانت تحمل أيضا إنذارا لما يتهدد النوع البشرى من خراب ودمار فى المستقبل إذا لم يسرع بالفعل إلى مواجهة حاسمة فى تلك الغرائز القديمة التى أصبحت تضره أكثر مما تنفعه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق