السبت، 30 مايو 2009

كابوسية العادي بين الاغتراب واللامبالاة
حادث النصف متر / صبري موسى

مقدمة :
ربما لا يستطيع كل من يدخل عالم صبري موسي ، إلا أن يتوقف غارقا فى دهشته يتأمل فى هدوء ، هذه الدماء التى تغرق سكين العادية، ويفتش عن الجرح فيما حوله لكي يحدد مصدر الصرخة التى سمعها تتردد بين أركان هذا العالم .
هذا هو الملمح الرئيسي للكتابة عند صبري موسي ، فى كل أعماله الروائية بدءاً من ( حادث النصف متر ) (1) التى نقب خلالها عن الملامح الحقيقية لمجتمع ما بعد ثورة 1952م .. فى تجربة حب بين شاب وفتاة، أظهرت إلي أي مدي كان التغير الثقافي خارجيا ، لم يمس جوهر المجتمع فى شئ . ثم ( فساد الأمكنة ) (2) . والرحلة الرائعة إلي جبل الدرهيب قرب حدود السودان ، وهو يحكي لنا مأساة نيكولا ويظهر لنا كيف يتسبب البشر فى إفساد المكان . وأخيرا يرحل بنا فى الزمان إلي السنة الواحدة والثمانيين من القرن الرابع والعشرين باليوتوبيا العلمية ( السيد من حقل السبانخ ) . والتى يقدم فيها رؤاه لمستقبل كوكب الأرض ، ليشد انتباهنا إلي ما ينتظرنا فى عالم جديد ، ويعري حياتنا بكل قساوتها وشرورها عبر الإسقاطات العديدة علي واقعنا المر . من هنا نستطيع التعرف علي زاوية الرؤية لدي الراوي ، التى تجتذبها سلبيات الواقع المعاش مهما اختلفت موتيفات هذه العوالم التى التقطتها الكاميرا بذكاء شديد .
لم يكرر صبري موسي نفسه فى أي من الأعمال الثلاثة فجاء كلا منها متميزا بل ومضيفا إلي الاتجاه المتفرد الذي سلكه فى الكتابة ، ليؤكد اختلافه عن دائرة الرومانسيين فى أواخر عهدهم ودائرة الواقعيين الاشتراكيين ، الذين استكملوا المسيرة بعد ذلك برؤيتهم الواضحة تبشيريه كانت أم حالمة . هذا المنتمي للكتابة والإنسان لم يستطع إزاء المستجدات الاجتماعية فى الخمسينات والستينات إلا أن يظل علي حياديته بين الدائرتين ، يعيد النظر فيما حوله من علاقات ونظم قائمة تماست مع جديد الثورة ، وأن يتحقق من السائد ليحاول فهمه ومنطقته إن استطاع . لذلك نجده فى كل أعماله لا يقف – بعد التقاطه للحدث – عند مورفولوجيته ( ظاهره ) بل يتعداها إلي أناتوميته ( تشريحه ) مستخدما فى ذلك أدواته الخاصة حتي تكتمل الرؤية وأقول هنا بتحفظ " اكتمال الرؤية " لدي المبدع والمتلقي اللذان يصلان معا إلي نقطة الغليان ( الكشف / الفهم ) و ( العجز / الاستسلام ) فى الوقت ذاته عبر أحداث عادية يصل بها المبدع إلي حد الحيرة والالتباس .
هذه هي الأرضية التى يقف عليها القارئ فيري ما حوله وما اعتاده، وكأنه يراه لأول مرة ، ولا يجد سوي دهشته من غياب الحلول أو البدائل لدي المبدع – الباحث – لسبب بسيط هو أنه لم يصل إليها فى بحثه وتحليله لما يراه . إن أدب صبري موسي ، لم يعرف القوالب الجاهزة ، ولذلك جاءت روايته الأولي ( حادث النصف متر ) بشكل ينأي بها عن مثيلاتها من الروايات الاجتماعية فى تلك الفترة كرواية أمين ريان ( حافة الليل ) ، أو حتى السابقة لها مثل ( اللص والكلاب ) لنجيب محفوظ . يظهر ذلك فى تقنيات البناء الفني للرواية ، وسوف نتطرق هنا إلي نقاط الإختلاف عن السائد في الكتابة فى ذلك الحين ، والتى " شكلت نسيج الحداثة الجنينية بخيوطها الواقعية واللامبالية والملتبسة جميعا " (4) .
أولا - عنوان الرواية :
حدث النصف متر
( قصة حب بسيطة ) .
منذ اللحظة الأولي يعطي صبري موسي مفاتيح العادية للقارئ ، عندما يصف الرواية بأنها ( قصة حب بسيطة ) ، فيكسر عن عمد عنصر المفاجأة ، ورغبة القارئ فى استكناه ما يندرج تحت هذا العنوان وكأنه يستثيره أن يكتشف العلاقات المخاتلة ، وكيف تتشابك لتعطي هذا النسيج الذي أقر بعاديته ، وبساطته ، فلا يكون أمامه سوي فرصة التأمل وبذلك يكون المبدع – الباحث – قد نجح فى تحقيق هدفه دونما مزايدة أو ضجيج .
ثانيا- البدء من النهاية :
" كان طويلا ، فانحني وهو يقدم لي نفسه ، ثم طلب مني أن أبتعد عن حبيبتي لأنه سيتزوجها ، لم أكن أعرفه لكن حبيبتي كانت قد تعودت فى الأيام الأخيرة ، أن تنقنق بإسمه فى لذة ، وقد سارع فأخبرني أنه يتشرف بلقائي بناء علي رغبتها ، فأخفيت مخالبي وشددت علي يده وأحكمت قناع الكبرياء علي وجهي ، وأنا أتمني لهما السعادة معا ، وسرني جداً أن أكون متحضراً وعصريا إلي هذا الحد ! لكنه عندما أعطاني ظهره الطويل ومضي ، شعرت أنني أكاد أنشق إلي نصفين من الغيظ " ( الرواية ص 8 ) .
ربما يكون البدء من النهاية ثم استرجاع الأحداث بـ (الفلاش باك) حتي نقطة البداية ليس غريبا علي القارئ ، ولكن هذه اللوحة البصرية عميقة الخصوبة والبساطة فى الوقت ذاته ما هي إلا وسيلة لفتح بوابات الداخل وما يرتبط بهذا الداخل من رؤية رجراحه وأحلام متكسرة . فنجده بذلك يشد القارئ إلي منطقة البطل الذي يرصد منها الحدث المؤطر بالعادية ، والمأساة البسيطة بساطة الموت فى تكراريته ووجوده. ولا يتوقف البطل عند هذه البللورة التى يهديها للقارئ منذ البداية فيري فيها الحدث والجوانب النفسية للأشخاص الثلاثة المحوريين فى المأساة فقط بل يكرر هذه النهاية فى أماكن متعددة من الرواية ممعنا فى تأملها و هي تلح عليه بشكل كابوسي إلي أقصي حد كما سنري ص 11 ( أنا الذي ذات صباح خريفي انحنى أمامه رجل طويل لا يعرفه وطلب منه بتواضع واضح الافتعال أن يتنازل عن حبيبته ليتزوجها ) ، ص 13 ( هذا المزاج المتقلب سيؤدي بي فى النهاية إلى أن أفقد حبيبتي بهذه الطريقة العصرية ) ، ص 27 ( بعد عامين من هذا الحادث سوف ينحني أمامي) ، ص 38 ، ص 57 ، ص 101 ( نفس التكرارية للنهاية بعينها ) ، هذه التكرارية تضعنا وجها لوجه أمام الحدث ( مأساته ) أو بلغة الدراسين الفينو منولوجيين ( حادث الوعي الحقيقي ) والذي نعتبره ذا دلالة منذ البداية حيث ( يؤكد أنه موجود بقدر ما هو ذو دلالة ) .
هذه النهاية المخاتلة ، لم تكن سوي حادث الوعي أما النهاية الحقيقية للرواية فهي ركام هذا الرجل الذي ( لا خبرة له بالحكايات ، ويحدثنا وأمامه نصف زجاجة من خمر بيضاء ، وليس فى نيته أن يخدعنا ) الرواية ص 8 . هذا الرجل الذي يداعب شجرة حزنه ليتأمل معنا هزائمه المستمرة ، التى أثمرت ثمارها السوداء داخل قلبه ، وهذا القهر الذي لا يهدف إلا إلي حذف وجوب البحث عن طرق جديدة للخروج من الأزمة لا يعطي سوي الاغتراب عن الواقع الذي يعيشه البطل بعادية ولا مبالاة واضحة تجعله ( يري جميع الحوادث فى نظره – كراوي قصة مسلية – متكافئة فى جودتها ) الرواية ص 27 ، لأنه يري ( إن فى طريقة وجودها ما يبرهن علي أن هناك من يقوم بخلق كل شئ ) الرواية ص 27 ، ( كل شئ يتغير بطريقة منتظمة دون أن يدري أحد ) الرواية ص 19 . هذه القدرية أيضا كفيلة بإضفاء قيمة السلبية علي كافة أجزاء الميدان الذي يوجد فيه البطل فنراه يبعد تماما عن الهدف الإيجابي المتمثل فى البحث عن طرق جديدة للخلاص ، ليقف علي الحافة الحرجة عاجزا عن الفعل وهو ( رجل عادي علي وجه التقريب ، وجميع غرائزه تطل برأسها فى حذر ، وهي ترمق قوانين المجتمع بنصف عين ) الرواية ص 9 . ليس أمامه فرصة سوي تأمل الأحداث التى مضت ( أتأملها الآن من فوق هذا الزمن الذي راح ) الرواية ص 78 لأنه يؤمن أنه فى مكان ما ، فى قلب كل تجربة، ( خفايا صغيرة دقيقة لا نستطيع أن نلمسها إلا إذا انتبهنا انتباها كافيا،أو أحببنا حبا كافيا أو صبرنا صبرا كافيا) الرواية ص70.
هكذا ينتقل صبري موسي مع القارئ من موروفولوجية الحدث إلي أناتوميته فيسأل الانفعال عن الوعي ، وعن الإنسان، لن يسأله عما هو فحسب بل عما لديه من علم عن كائن من بين خصائصه كونه قادرا علي أن يكون منفعلا ، وبالعكس سيسأل الوعي والواقع الإنسانى عن الإنفعال الممكن والذي أصبح ضروريا . ولعل هذا ما يفسر منطقية تقسيم الرواية إلي أجزاء متتالية تبدأ ( بالتاريخ السري لرجل ) ، ثم ( فكرة الوقوع فى الحب ) ، ( الرجل السابق المجهول ) ، ( مفاتيح بيوت لا نملكها ) ، ( الخروج من عنق الزجاجة ) وأخيرا ( الرجل الطويل ينهي المسألة ) . هذا التقسيم البحثي يسهل له استخدام أدواته ، ويجعلنا ندخل بيسر إلي جسد الحدث بعد تجهيزه .
ثالثا – الشخصيات / الحدث :
تتبعثر الملامح المختلفة للشخصيات عبر أجزاء الرواية فلا نكاد نستجمع ملمحين متتاليين لنفس الشخصية فى مكان واحد ، أو فى تتابع تاريخي سردي ، لأنه يعتمد علي اللقطات. وسوف لا نلمح أيضا أسماء علي الإطلاق اللهم إلا السيد ( زينهم ) ، وفي اعتقادي أن هذه الخصوصية لشخصيته نتجت من ارتباطها بخصوصية المكان ( حيث كان بيته العائلي معداً بشكل شبه سري لاستقبال الثنائيات التى تبحث دوما عن جدران بديلة عن الشوارع ) . هذه الشخصية بشكلها الناتئ ، والناتج من شدة امتهانها للتقاليد المجتمعية المعاشة ، والتى أيضا تعيش فى أمان وسط هذا المجتمع كان لابد أن تكتسب هذه الخصوصية وهذا التأطير . أما بقية الشخصيات ( حتي المحورية ) فغابت اسماؤها بشكل يخدم هدف الروائي / الباحث فى ضمان تسليط الضوء علي الحدث نفسه دون أن يشغل القارئ حتي بالاسماء . إن إلغاء هذه الخصوصية للشخصيات يثري تعميم التجربة التى يمكن أن يكون بطلها أي منا .. ورغم هذا النسيج المتشابك من الضمائر الغائبة والمخاطبة والمتحدثة نستطيع أن نميز فى سهولة تامة شخصيتي (الشاب والفتاة ) بينما يمثل تواجد الشخصيات الأخرى الجسر الذي يربط بين الشاب والفتاة والواقع المعاش ( فى التجربة ) فهي تعمل ككشافات اجتماعية تنير الطريق الذي سلكاه أمام القارئ ليسهل عليه تقصي أثرهما حتي ولو كان ملتبسا أو دقيقا وهنا لا يجب أن نغفل النقطة المحددة التى يكتب منها الروائي والتى هي أقرب ما يكون فى منطقة ( صلة العلة بالمعلول) أو صلة السبب بالنتيجة ومن ثم فهو لا يعطينا ملامح جاهزة مسلم بها ، هذا الأسلوب التحليلي جعله يصل إلي مناطق سوسيولوجيه عبر الأجيال التى انحدر منها ليوضح أثر الوراثة فى السمات الشخصية والتى جعلته ( شخص متقلب ومختلط المزاج ) وأثر البيئة التى يحددها من خلال طبقته الاجتماعية وهي الطبقة المتوسطة التى تتميز بأن ( سكانها شديدو الأنانية لا يهتمون بشئ سوي ذواتهم ، أنهم يواصلون الزحف فى التواء وخبث علي أعتاب الطبقة العليا بينما القلق يطحنهم لأن الرعب من السقوط فى الطبقة السفلي لا يزايلهم لحظة ) الرواية ص 10 ، 11 .
ولم ينس أثناء ذلك أن يجعل أوجه الاستعمار المختلفة التى عاني منها المجتمع خلفية تاريخية تطل برأسها فى السمات الشخصية للأفراد . وجعلنا أيضا نلمس من خلال لقطات ذاكرته شكل التنشئة التى جعلته ( ضعيفا سلبيا لا يجيد اتخاذ القرارات ) الرواية ص 14 . ومراهقا شديد الخجل والحساسية يتعلم لعبة الحب علي يد فتاة الشاطئ ذات المايوه الأحمر فى بناء لم يستكمل بعد ، ثم تتزوج بعد ذلك فتعلمه أيضا ( أن الفتاة يمكن أن تلعب اللعبة مع رجل ثم تتزوج رجلاً آخر ) الروية ص 19 . إذن لا شئ حقيقي ولا شئ ثابت . ثلاث فتيات يعرفهن بعد ذلك أثناء دراسته ويتزوجن فى هدوء يؤكدن لهذه القاعدة ، كل ذلك جعله يميل إلي طريقة الحياة الأوروبية ، لتسفر اللقطة التالية عن شاب قلق جدا تسيطر عليه فكرة أنه ( رجل لكل النساء وأنه من الضروري تصفية هذه العلاقات والاحتفاظ بواحدة علي طريقة الرجال الواضحي التهذيب ) الرواية ص 26 .
ب- الحدث :
فنصل بذلك للحدث الرئيسي وهو قصة الحب السريعة التى تمت بالصدفة البحتة لمجرد أن بنتا فقدت توازنها أثناء اهتزازة مفاجئة بالأتوبيس فأمسكت بذراعه بطريقة لا إرادية وهنا تتضح ( عادية الحدث ) فيضحي هو بساعات نوم الظهيرة وتختلس هي الوقت من بين المحاضرات وتنزلق الأمور بعد ذلك إلي صديق يدل الشاب علي منزل السيد زينهم . من هنا تبدأ المأساة ( شاب وفتاة فى المرحلة الثالثة من العمر يشعران بالعزلة النفسية فى هذه المدينة الكبيرة التى تزين سماءها الأضواء وفي هذا العالم الكبير المدهون فقط بالحضارة ) الرواية ص 46 من هذه الغرفة وكل الغرف التى يمتلكوا سوي مفاتيحها فقط نجترح اللحظة المخبأة معهما ، هذه الغرف التى شهدت غلياء الدماء الحقيقي وغيبوبة الانتشاء الكامل تجترحنا أيضا – وبلا هوادة – بكمية الأسئلة التى تتفجر فيها علي المستوي النفسي للبطل وانعكاساتها الاجتماعية خاصة بعد أن يكتشف البطل أنه ( لم يكن فارس حبيبته الأول ) كان يعلم أنها تكذب بشأن ممارستها للرياضة التى تضطرها للقفز مفتوحة الساقين رغم ذلك يستمر فى علاقته بها ولقاءاته التى تعذبها أسئلته المحمومة التى غذاها مزاجه المتقلب كيف تعطي قلبك لامرأة كانت لرجل قبلك ؟ هل كان ما بيننا حب ؟ إنني فقط استمتع بها . إنني لا أطمئن إليها هي لم تحصل علىَّ حصولاً كاملاً ، لم أسلم نفسي لها كلية . كل هذه التوترات كانت تختفي وراء النسيج السميك القاتم للشهوة ونداءات الجسد ، لشاب أصبح الأمر لديه مجرد نزوة وفتاة تبذل أقصي ما تستطيع بذله جسديا وتتعذب لكي تمتلك هذا الرجل الذي وصل بها حاله إلي أن ( جعلها تتأرجح بين اللهفة واليأس لأنها تعلم أن وجودها ليس ضروريا لوجوده ) الرواية ص 78 وهنا تقرر أن تختبره لآخر مرة وتخبره بأنه سيصبح أبا فيقرر أن يجهضا هذا الجنين فى محاولات متعددة وفاشلة كلها . يصل حال القلق والاستهلاك الداخلي للفتاة إلي إصابتها بقرحة المعدة خاصة فى الأربعة شهور الأخيرة فى العلاقة وهنا يصل صدق الباحث إلي أقصي درجات نقائه عندما يعلن بهدوء أنه فى موضوع الزواج بالتحديد ( كنت أشبه غالبية الرجال ، كنت أفكر وأتألم ولكني كنت أفتقر إلي التصميم ، كنت أفتقر إلي إرادة التنفيذ التى تعطي لكلمة رجل معناها الحقيقي ) الرواية ص 88 .
وحسب النظرية السيكولوجية للانفعال عند دامبو ولوين (6) أن الدائرة التى يمكن للفرد اجتيازها تمثل عائقا ( ماديا أو معنويا ) تشكل فى نطاق إدراك الفرد حاجزاً تنطق منه قوة موجهة باتجاه معاكس للقوة الأولي فيستمر الصراع بين هاتين القوتين والتوتر الشديد فى المجال الحادثي فإن لم يستطع الفرد الحل أو الاستبدال لجأ إلي الرجوع عن التجربة والهرب من الميدان ) (7) . هكذا ينكسر الفارس فى حياة الفتاة والتى تنتقل إلي المستشفي لإجراء الجراحة ( لقرحة المعدة ) والمعروف أنها من الأمراض ( السيكوسوماتية ) ( النفسجسميه ) فتلتقي بالطبيب الذي يقدم لها شتي أنواع العناية ( الطبية والنفسية ) فتلاحظ اهتمامه الزائد بها لدرجة جعلتها ( تنقنق باسمه بين الحين والآخر كأنها تهدد الشاب به ) أثناء زياراته إليها فتأخذ قرارها الخفي فى أمر زواجها من الطبيب بينما يفكر الشاب جديا فى الزواج منها ، بل ويبدأ بالفعل من إجراءات طلب نقود من أجل الزواج لتقودنا المفارقة إلي قرارين أحدهما جعل الشاب ذات صباح خريفي حزين ( ينحني أمامه شاب طويل ويطلب منه أن يبتعد عن حبيبته لأنه سيتزوجها ) هكذا يقتضي الأمر منه أن يجعل العالم حقيقة محايدة علي الصعيد العاطفي ليصل إلي خلق نظام توزان عاطفي كلي وذلك عن طريق تخفيف الشحنة القوية وإيصالها إلي حالة الصفر العاطفي فإن لم يستطع ( وذلك ماحدث للشاب ) أو لم يشأ تنفيذ الأشياء التى كان يخطط لها ، تصرف وكأن الكون لا يتطلب شيئا منه ( هنا يظهر سبب اللامبالاة لدي البطل ) والعجز أيضا اذ لا يستطيع الا أن يؤثر علي ذاته فينطوي ويحزن (8). وهذا الحزن يهدف إلي حذف وجوب البحث عن طريق جديدة للخلاص لتستمر الحالة التى توقفت عندها كاميرا الروائي وكانت خاتمة للرواية .
رابعاً – المجتمع / المفارقة :
أ- المجتمع :
فى هدوء يتناسب مع عادية الكابوس ، يستخدم صبري موسى شخصيات ككشافات اجتماعية تمثل الجسر الذي يربط التجربة بواقعها المعاش ، فيعطي بذلك صورة لهذا النسيج المتآلف بما فيه من ثقوب واهتراءات يستنبطها القارئ من خلال تداخلات تفاعلها مع بعضها البعض ، دون أن يتدخل أو يعرض وجهة نظره الخاصة فتظهر الملامح الحقيقية لهذا المجتمع والتى تتمثل فى المحاور التى تماست مع دائرة الحدث الرئيسي فأثرت فيه منها :
§ التنشئة الاجتماعية وأثرها فى تكوين شخصية البطل ، وشكل الأسرة المحافظة علي التقاليد التى نشأت فيها البطلة.
§ الشكل العصري للحياة بموتيفاتها الدخيلة علي المجتمع وصراعها مع القديم المتعارف عليه ، والذي تمثل بشكل واضح
تماماً فى قائمة الممنوعات التى أثرها القريب العائد من أوروبا والتى اختتمها برؤيته ( أنتم هنا مساكين ممتلئون بالعقد )
الرواية ص 35 .
§ الصدفة بمفهومها الحديث والرؤية العصرية للتجارب العاطفية التى تصل إلي حد المخاتلة ( المعني / الواقع ) فتسهل
الغرف المتفرقة والتقبل العام للجديد المعاش حتى ولوكان فى الظلام .
§ الجدلية التى كانت علي أشدها فى ذلك الوقت والتى تمثلت فى قضية الرجل / المرأة . فأثرت علي شكل التعامل بينهما بما
إنهما معا من يديرا دفة الحياة . الرواية ص 53 .
§ أيضا ماضي الفتاة ومدي علاقة الزوج به إلي أي حد ؟ وكيف؟!
ب- المفارقة :
خلال الشرائح السابقة التى عرضها الروائي للمجتمع نستطيع أن نقف علي عدد كبير من المفارقات المؤثرة فى بساطتها والمتداخلة فى لحم العمل دونما افتعال أو تأطير . إذ تتكشف عبر الرواية كلها كلقطات معبرة ، فنجد فى اللقطة الأولي الصديق المتزوج الذي يخون زوجته بين الحين والحين يتبع شكليات تتفق عليها قبل أن يذهب بطلي المأساة إلي الغرفة فى منزل الأستاذ زينهم ، هذا الرجل الذي يبدو للوهلة الأولي رجل أعزب، يظهر لنا فى هدوء يشبه العادي بملامحه الكاملة ( متزوج وله من زوجته طفلان صغيران ، زوجته لها بنت كبيرة من زوج سابق يتم ذلك فى مقابل مبلغ من المال لا يجب أن يقل عن بضعة جنيهات ) ، ( السيد زينهم يعمل بالشئون القانونية فى إحدي الهيئات) الراوية ص 44 .
اللقطة الثانية : أول لقاء منفرد بين الشاب والفتاة بالغرفة المؤجرة يدير المفتاح فى الباب فتفزع الفتاه مما تراه ، تنكفئ علي الفراش وتبكي بانفعال يثير شفقته ويشعره بالآثم فيخرج معها للشارع وهو ممتلئ بالإحساس بالذنب نحوها والتفكير المثالي فيها وهي تسير إلي جواره صامتةً ترمقه بحنان مفعم بالاعتراف بالجميل . لكن : ( بعد ذلك بأربعة أيام عدنا إلي ذلك البيت ودخلنا نفس الغرفة وأغلقنا بابها علينا وكانت حبيبتي فى هذه المرة أكثر شجاعة ) الرواية ص 51 .
اللقطة الثالثة : فى الغرفة ذاتها وهما يصنعان الحب كانت عيناها تتوسلان إليه فى اللحظة الحاسمة بشئ لا يدريه . فهمه فى البداية أنه فزع من الفعل ذاته ، حيث كان متسربلا بفكرته المثالية عنها. لكنه بعد أن يكتشف أنه لم يكن فارسها الأول يظهر له سر الخوف الذي كان ( افتضاح أمرها ) ( لا مثاليتها ) الظاهرية .
تتابعت بعد ذلك اللقطات فيظهر الصديق الذي يمتلك الجارسونيره والتى يتفاخر بها يعيرهما إياها ليكتشف الشاب بالصدفة أن صديقه هذا لم يكن يستطيع أن يكون رجلاً مع أية امرأة يصحبها إلي هناك .
يظهر أيضا من خلال استعراض اللقاءات العديدة بين الشاب والفتاة فى مختلف الأماكن كل يوم (التزام الفتاة الشديد بتقاليد عائلتها) ومحافظتها علي الرجوع فى الثامنة مساءً والمكوث بالمنزل يوم الجمعة أجازتها الأسبوعية من الجامعة . والصديق الأخير الذي كان يبيح نفسه لكل النساء ، يخطب فتاة إحدي العائلات المحافظة وهو ما يزال علي علاقة مع صديقة تزوره بانتظام وتعيش معه تحت سقف واحد ، عندما يتزوج يكتشف أن بحياة زوجته رجلا كانت تعرفه قبل أن تعلن خطبتها، كانت آثاره علي روحها عميقة ولم تستطع أن تنساه فطلقها .
اللقطة الأخيرة : للشاب والفتاة ( فى نفس الكازينو جلسنا ثلاث ساعات نأكل ونشرب البيرة ونخطط فى أوراق أمامنا مئات الترتيبات لحياتنا الزوجية القادمة وقد غادرنا المكان ويد حبيبتي فى يدي ، في اليوم التالي يدق باب مكتبه رجل يحمل نفس أسمه لينحني أمامه وفى تواضع مفتعل يطلب منه أن يبتعد عن حبيبته لأنه سيتزوجها ) .
خامسا – السرد / الأسلوب :
أ- السرد :
منذ الجزء الأول يتوزع السرد ، علي ثلاث مجالات تتداخل من حين لآخر وتتقاطع ، مع ارتدادات إلي الوراء توضح لحظات الحاضر. فابتعد عن التسلسل التاريخي المنظم الذي يعتمد علي زمنية التتابع نجده مثلا علي مستوي الحاضر (يجلس الآن تحت شجرة ظليلة الحزن) ، ( مجرد رجل أعزب يدخن ذكرياته ويشرب خمرة بيضاء ويثرثر ) الرواية ص 20 ، وعلي المستوي النفسي نجده يتأمل التجربة بعين فاحصة ومحايدة تلزمه الصدق فى السرد حتي علي مستوي الأشياء الدقيقة ( الأن أدرك وأنا أتأمل التجربة من فوق هذا الزمن الذي راح ) الرواية ص 78 . وأخيرا علي مستوي الماضي ( فى تلك الأيام استولي علي شعور مر المذاق بأن ذلك الماضي الغامض يطاردني ويطاردها ) الرواية ص 68 .
ب- الأسلوب :
يتنوع أيضا أسلوب السرد ليوائم نوع التجربة الروائية التى نحن بصددها الآن ما بين المنولوج الذي يتناسب مع التداخلات النفسية للبطل خلال عملية الاستبطان للأحداث والأفكار والرؤي التى مرت أو التى يشعر بها الآن . والديالوج فى الحوار بين طرفي المأساة والذي شمل أهم خيوط الحدث الرئيسي يأتي بعد ذلك أسلوب الحكاية عن بقية الشخصيات المتماسة مع الحدث أو المتداخلة فيه ، علي مستوي الجملة نستطيع أن نلمح قصرها المحكم وتعبيرها الدقيق عما يريد قوله دون مطاطية او تشابه . أيضا التجريدات فى الوصف الذي يصل إلي حدث الاختزال ، فيصف مثلا العادي بالعادي ، والبسيط بالبسيط ، هذه اللغة تقتحم كافة المستويات الثقافية من قارئ المجلة حتي الدارس المتخصص بنفس الدرجة .
إن هذه الملامح الخاصة علي مستوي ( السرد والجملة واللغة ) أعطت الكثير بشكل تحليلي بحثي ، وبشكل أدبي قوي ، وأخيرا بشكلها الصحفي الذي اعتمد علي نشرها مسلسلة فى مجلة صباح الخير فى عام 1962 م . هكذا نستطيع الآن أن نخرج من عالم صبري موسي ونحن مؤمنين تماماً بتقنيته الشديدة وأدواته المميزة التى اعتدنا دائما أنها تدمي ولا تجرح .

الهوامش :

1- صبري موسي ، حادث النصف متر ، الأعمال الكاملة ، الجزء الأول ، الهيئة العامة للكتاب 1987 م .
2- صبري موسي ، فساد الأمكنة ، الأعمال الكاملة ، الجزء الأول ، الهيئة العامة للكتاب 1987 م .
3- صبري موسي ،السيد من حقل السبانخ ، نشرت مسلسلة بمجلة صباح الخير ( 18 جزءاً ) فى الفترة من 3 سبتمبر ، 1981 إلي 4 يناير 1982.
4- غالي شكري ، مقدمة الأعمال الكاملة لصبري موسي ، الجزء الرابع ، هيئة الكتاب 1992 . ص 24 .
5- سارتر ، نظرية الانفعال ، دراما الآداب بيروت ، ص 16 .
6- دامبو ولوين من تلاميذ عالم النفس كوهلر .
7- سارتر ، نظرية الانفعال ، دار الآداب بيروت ص 33 .
8- نفسه ص 59 .

الجمعة، 29 مايو 2009

رحلة في عالم صبري موسي الإبداعي
ماهر حسن
روايته السيد من حقل السبانخ وهى خيال علمى كان قلقا على مستقبل البشرية من التقدم العلمى، وفى رائعته فساد الأمكنة تناول بحس اسطورى المأزق الوجودى للإنسان، وفى مجموعة القميص تناول إشكاليات جيله وفى حكايات صبرى موسي مضى بقوة الحكى اليومى عن أناس متعينين؟. هذا هو صبرى موسى الذى صدرت أعماله الكاملة قبل أيام عن هيئة الكتاب، بعد أن نفدت معظم أعماله بعد إعادة طبعها لمرات وهو كذلك صاحب التجارب المتميزة ، وقد حصل على الكثير من الجوائز منها جائزة التفوق، والتقديرية وهذه ارتحالة فى عالمه الغنى ونحن إذ ننشره نتمنى له الشفاء من وعكته الصحية الأخيرة. - وصفت جيلكم بأنه سقط سهوا، فما دلالة هذا التعبير؟ -- هناك تعبير للراحل سيد النساج يفسر هذا المعنى، وهو أنه الجيل الذى سقط بين جيلين، ولكن الوصف امتد إلى أن جيلنا كان له الفضل فى كسر الحائط الكبير الذى كان يفصل بينه وبين امكانية تحققه فى ظل حضور وعنفوان جيل العمالقة، الذين سيطروا على المشهد الروائى والقصصى بجدارة وأحقية، وكنا بالمقارنة به كعصافير بين النسور، وكان السؤال.. كيف لنا أن نتحقق فى حضور جيل على رأسه طه حسين وتوفيق الحكيم والعقاد وسعد مكاوى ويحيى حقى وأبوحديد وصغارهم يوسف إدريس وإحسان عبدالقدوس وأمين يوسف غراب ويوسف جوهر ومحمود البدوى ورغم هذا فإننى أزعم أننا كنا جيلا له الفضل فى إرساء جملة من التقاليد الروائية الجديدة التى تجاوزت زمنها، ولا أنكر أن الكثير من أسماء جيلنا قد سقط فى الطريق، لكن بقيت هناك علامات قصصية وروائية دالة علينا وقد هلت علينا الستينيات ونحن متأكدون فى المشهد وفى ذروة التحقق ومجددون فى اسلوب القص تاركين أثرا غائرا لا يمحى. - وهل وبناء على ما مضى يمكننا اعتبار مجموعة القميص وبالأخص قصة الجدار إحالة لطبيعة معاناة جيلكم فى تحققه؟ -- نعم، غير أننى أشرت لفكرة الأجيال فى مصر فى زمننا آنذاك، أما فيما يختص بجيلى وتحديدا فاعتبر نفسى عينة دالة وشريحة منه، فحين بدأنا الكتابة، لم تكن هناك فرصة عمل حقيقية، وكنا نعانى من البطالة وضبابية المستقبل، ولذلك فقد عانينا مثلما فى قصة الجدار كما أشرت، ولقد بدأنا رحلة المعاناة بعدم الاعتراف بنا أدبيا، وإذا تم الاعتراف لم يتم التقدير المادى، فحين نشرنا أول قصصنا أذكر أنهم قالوا لنالا ندفع لمبتدئين وكان أن ناصرنا عبدالحميد يونس حينما كان مسئولا عن الأدب فى الأخبار ومن بعده لويس عوض الذى كان مسئولا عن الأدب فى الجمهورية وبدأوا يمنحوننا مكافآت رمزية، إذن فكانت هناك رؤية شاب ريفى للمدينة، ويجعل دهشته إزاءها موضوعا لقصصه، دون ارتباط بشرط قصصى اسلوبى وفنى، وهنا ظهرت المقالات النقدية التى تصف هذه القصص باعتبارها خواطر، لكن مع التقادم الزمنى، وكثرة الكلام عن الحداثة، أصبحت هذه الكتابات قصصا بالفعل تحمل فى طياتها البذور الأولى للتجديد، وتجاوز الحواجز التقليدية للسرد القصصي - أقف فى أعمالك على اعتنائك الشديد بالمشهد هل يرجع هذا لأنك بالأساس تشكيلى وعملت مدرسا للرسم ثم مخرجا صحفيا. لقد وقفنا على هذه المشهدية فى القصة والرواية والسينما بل وفى التحقيق الصحفى الميدانى. -- هذا اسلوب وطريقة، وكل روائى صاحب طريقة واسلوب، والصورة واحدة من إبداعات الإنسان، ويمكن الصورة عندى أكثر حضورا لأنها تشكل جزءا من تركيبتى الذهنية والنفسية، حيث كنت منذ بواكر عمرى أتمنى أن أكون رساما، حتى أن الموقف عندى يتحول إلى صورة لها إطارها وعناصرها الداخلية والتفسيرية، ولقد أصبح التلقى يعتمد الصورة وسيطا فنيا فى التعبير. - جائزة التفوق كنت أول الحاصلين عليها فى أولى دوراتها ثم أعقبتها التقديرية عام 2002، فلنتحدث عن ترشيحك ودلالة حصولك عليها؟ -- بالفعل كنت أول الحاصلين على جائزة التفوق وهذا تقدير أشرف وأسعد به، فلما جاءت التقديرية، رشحنى اتحاد الكتاب ضمن اثنى عشر مرشحا وتم التصويت السرى على هذا، إلى أن وقع الاختيار على، وبعد التصويت على التقديرية حصلت على 35 صوتا فيما حصل سليمان فياض على 32 صوتا ثم عبدالعزيز حمودة 30 صوتا هذا رغم مجئ اسمى فى المقام الثالث فى الأخبار الصحفية، وهذه تفعيلة لم يلتفت إليها أحد، وأقول وبالطبع ونحن فى مرحلتنا العمرية هذه إن أى تقدير يسعد الكاتب، ويشعره أن جهده لم يكن حرثا فى الماء، غير أن التقدير الأهم والذى يثير حماس المبدع هو تقدير القراء الذين نكتب بهم ولهم، وبالأخص حينما تنفد نسخ عمل لك، أو يعاد طبعه لمرات - وماذا عن روايتك التى تكتب فيها منذ ما يزيد على الست سنوات وهى فنجان قهوة قبل النوم وكأنها تبدو عصية على الكتابة.. ما سبب تأخر انجازها كل هذا الوقت.. نريد أن نقف على أحد ملامحها؟ والذاتى والملحمى؟ -- فيما يتعلق بهذه الرواية، فإننى لم أصرح لأحد بأننى أكتبها، إلا لعدد قليل من المقربين، الذين دائما ما يسألوننى عنها، وربما تأخرى فى انجازها يعود لكونها رواية مركبة بعض الشيء، حيث هى مزيح من روح السيرة الذاتية وسيرة جيل عبر تأمل للحياة وعلاقاتى الإنسانية فيها، وما انجزته منها يصلح لأن يكون ثلاث روايات، فهى أيضا تتضمن تأملى لتحولات نصف قرن وتجاربى مع الآخرين فيه، وما حدث لمصر، وأنا بطبيعتى لا أميل لانجاز الأعمال الملحمية الحجم، بل إننى فضلت أن أترك لتداعياتى العنان فوجدتنى مؤخرا بإزاء استخلاص عملين روائيين من هذه الكتابات الكثيرة، وأنا بطبيعتى غير متعجل، وأميل للكسل والتأمل والحركة البطيئة - هل روايتك السيد من حقل السبانخ التى نشرت فى 1982 وتوقعت فيها ظهور المحمول، وحدوث تجارب فى الهندسة الوراثية وغير ذلك فهل جاءت الرواية نتاجا لزياراتك المتكررة لأمريكا.. أم من أين جاءت هذه النزعة الاستشراقية؟ -- المدهش أن توقعاتى فى الرواية، كانت تغطى قرنا من الزمان فإذا بها تتحقق عبر عقدين فقط من الزمان، وبالفعل كانت هذه الرواية نتاجا لزياراتى المتكررة لأمريكا ومشاهداتى هناك، فقد كنا نسمع عن أمريكا فى الخمسينيات باعتبارها الدنيا الجديدة بما تحويه من اتساع القارة الواحدة، مع هذا التنوع البشرى العظيم، نتيجة للهجرات، وبما نعرفه عنها من استيعاب واستقطاب للعقول المبدعة فى كل المجالات الإنسانية وصولا لعلم الذرة حيث كان المنعطف فبدلا من اقتصار هذا العلم على خدمة البشرية فإذا به يوظف ضدها للتكريس للهيمنة والتفوق الأمريكى مما جعل أمريكا على شفا هوة الانحطاط الأخلاقى. - وفق هذه الرؤية وهذا الطرح، ألا تلاحظ رغم مصرية وعربية الرؤية والكاتب أن الهم المطروح هو هم كوزموبوليتاني إنسانى فى العموم، كما أن هذا العمل لم تسبقه بروفة تسجيلية محضة. -- نعم أنا لم أسجل مشاهداتى عن الواقع الأمريكى تباعا فى حلقات، فلقد كان زخم هذه المشاهدات لا يسمح بمسافة زمنية فاصلة أو تمهيدية، وإنما توفر لها الإلحاح الروائى من البداية، فالتأمل كان يفرز تجلياته المباشرة، واتفق معك أن الهم الذى طرحته الرواية كان هما إنسانيا عاما فالخطر يتهدد البشرية كلها بما فيها نحن لكن من المدهش أن هذه القارة الرهيبة أمريكا لا تستخدم إلى الآن من امكاناتها الطبيعية أكثر من 10% وربما أقل، والباقى مخزون فيما أنها لا تكف عن الالتفات لثروات وطاقات الآخرين، وهذا ينافى الطرح الأخلاقى الذى تأسس عليه المجتمع الأمريكى.- إذا قلنا إن السيد من حقل السبانخ تتناول المأزق الإنسانى فى مهب عصر مادى، فهل يمكن القول إن فساد الأمكنة تتناول عبر ما يمكن تسميته بالطرح الاسطورى؟ وهل مأزق بطل هذا العمل أنه كان متنازعا بين ما هو مادى وما هو إنسانى معنوى أو ميتافيزيقي ** مأساة هذا البطل أنه لم يكن ماديا بالكامل وليس شاعريا بالكامل، وهذا التنازع والانقسام أدى به إلى المحنة الكارثية التى ألمت به، فلم يستطع التخلص من آدميته كما أنه لم يستطع التخلص من استغلاليته للمكان.

خشونة المثاليين في رواية" فساد الامكنة"

بقلم: عزف الآلام
بدت في روايته "فساد الامكنة" خشونة المثاليين الذين يرون في الرسائل الكبرى (الصوفية وغيرها من الرسالات الروحية) ذروة ضد شهوات ومطامع الحياة. كما ان نيكولا بملامحه القريبة من ابطال العهد القديم والمتماثلة مع هواة تعذيب الذات في الثقافة الشيعية للوصول إلى المثال الكامل... هوالصورة الزاهية من صراع بين الروح والجسد.وصبري موسى على ما يبدو في الرواية وحتى في "حادث النصف متر" مؤمن بالمسافة بينهما وهي المسافة التي يمكن ان تسير إلى مصير دموي كما في "فساد الامكنة" وسيتاريو البوسطجي "(اخراج حسين كمال عن قصة "دماء وطين" ليحيى حقي)..لكن هذه الدموية ربما تأتي نتيجة منطقية لمحاولة توحد شبه كامل مع الطبيعة. والاستسلام لحواس فطرية منزوعة الغرائز.وفي رواية "السيد من حقل السبانخ" تقصى صبري موسى طريق جورج اورويل في رواية تخيل المستقبل. ومزج بين طرافة الخيال والفزع من المصائر السياسية والاجتماعية لفكرة التقدم. في "... السبانخ" سيطرة كاملة على الحواس الفطرية. والابطال روبوتات تسير وفق نظام غير مرئي. وربما تكون هذه الرواية هي الوجه الآخر للاجابة عن سؤال الوجود في "فساد الامكنة".أسماك الشهوة المتوحشةلا يمكن طبعا ان ننسى "نيكولا" و"ايليا" في "فساد الامكنة".قديس غريب جوال يبحث عن حقيقة غامضة.وموديل للفتنة الوحشية الممزوجة بالبراءة.نيكولا لا وطن له..هاجرت عائلته وهو طفل في العاشرة من احدى المدن الروسية الصغيرة .واستقر ابوه في اسطنبول طبيبا للاسنان، وكان ذلك اخر ما يعلمه عنه. بينما كان يقطع الارض مهاجرا دائما مع اخويه فيترك كل واحد منهما في مكان.استقر نيكول بعض الوقت في مدينة ايطالية... هناك قابل "ماريو" و"ايليا".ايليا: "امرأة قوقازية مهاجرة... تدخل الحلقة الثالثة بجمال آخاذ يأخذ الحواس ويغمرها برجفة نشوة موعودة".... و"نيكولا" كان مولعاً في هذه الفترة بالنساء. لكنه ولع خفي تغطيه العفة المزيفة... وكان ذلك "متناقضاً مع ما حوله في مكان من الارض معبد باليود يسميه الجغرافيون حوض البحر الابيض، مكان من الارض تعتبر فيه المرأة علفاً لأسماك الشهوة... ولعل ذلك اصبح حكماً تاريخياً الان، فلقد اصبحت المراة علفاً لأسماك الشهوة المستوحشة في كل مكان".ايليا المتوحشة: كانت تدير مطعما مع ابيها على الشاطئ... وكان ابوها جلفاً غليظ الخلق يضربها امام الزبائن... حين جاء نيكولا يطلب عملا..اعطته نفسها في مؤخرة مخزن الادوات بالمطعم... بدون ان يطلب... وبرغبة في امتلاكه..لكنه اعطاها جسده بينما ترك روحه تحلق بعيدا متطلعة إلى امكنة جديدة... انه من المغامرين الذين لا يرضون بدفء مكان واحد... ولكن بالتحليق الدائم... ولهذا كان "نيكولا" يحلم بحب نادر ومثالي يمنحه القدرة على التحليق بعيداً.ايليا..كانت الاحلام تؤرقها. استقرار ومشروع كازينو...وزواج وقع نيكولا في مصيدته.. "قالت له: سأكررك يانيكولا وانجب من صلبك ولداً يسمرك في الارض ويثقل اجنحتك عن الطيران..لكنها انجبت بنتاً..ولم يجد هو ما يعوضها عن حبه الذي تحول صداقة سوى ان يكررها...فسمى البنت ايليا..".صراع الاستقرار والسكون بين امراة شهية. طموحة. تريد اصطياد الطائر في قفص المشاريع العائلية والتجارية. وبين مغامر جوال مثل طائر وحيد في سرب مهاجر...: "...اصبحت له في الحياة امرأتان تسميان ايليا... تربطه بهما مشاعر صداقة عميقة فشلت في ان تكون حباً.. احداهما زوجته والثانية ابنته...".ايليا الكبرى كانت تدفعه إلى خطط التخلص من ابيها لتنفرد بالكازينو..لكن ظهور ماريو انقذه.ماريو مهندس تعدين. مغامر لعبت برأسه احلام التنقيب عن المعادن في جبال مصر (كانت ايامها تحت ادارة المستعمر الانكليزي)..حكى لنيكولا عن الكنوز المدفونة في الجبال ..فلعبت برأسه فكرة امتلاك واحد من الجبال العظيمة.. نيكولا ترك كل شيء وسافر مع صديقه إلى مصيره..واصبح ماريو بديلا لايليا الكبرى والصغرى..هذا قبل ان يصبح " ايسا" بديلا لماريو..!أساطير الذهب والأجساد العاريةايسا: البدوي الرومانسي. من سلالة الادلاء الذين باعوا للاجانب معرفتهم الغريزية عن هذه الجبال. هوالذي قاد جمل نيكولا في اول خطوة في الصحراء..ثم انقذه من موت محقق في الصحراء. ايسا سرق سبيكة الذهب التي جمعها من الجبل رجال ماريو وشريكه المصري "خليل باشا". لم يكن الغرض هو السرقة..بل المحافظة على اسطورة الجد الاكبر لقبائل البجاة "كوكا لوانكا. " لابد ان يظل موجودا في سلوك يومي وليس فقط في الذاكرة. فالاجانب يحولون كل شيء في الصحراء على هواهم. سيغيرون ويقلبون كل شيء..كانت القبائل تسعى إلى الحفاظ على الاستمرار..وكان ايسا يريد ان يعرف جده ماذا يفعل الخواجات في جبالهم الخالدة.خرج نيكولا يقتفي اثر اللصوص. لكنه لم يلحق بهم وسار وراء سراب كاد يقوده إلى الموت لولا ايسا الذي عثر عليه واصابعه مغروسة تريد استخراج الماء من الصخر.نيكولا احب ايسا..وفي رحلة العودة مرت القافلة عل بقايا المناجم الاثرية المهجورة... ولمحوا على الصخور اثار الكتابات القديمة... وكان "نيكولا يرتجف مهابة وخشوعا وقد استولى المكان على حواسه المضطرمة بالرغبة في التحليق...وشعر بأنه يوشك ان يجد مكانا يرغب في الانتماء اليه....يوشك ان يجد وطنا...".والأهم كان متأكداً انه قد اكتسب ايسا اخاً وصديقاً.هي اخوة روح او ولع المغامرين بالسحر في ايمان البدو بالطقوس الخرافية. مغامرة نيكولا لم تكن العثور على ارض يملكها لكنه كان يريد التوحد مع الطبيعة. ان يصبح جزءا من الكون. وهذا سر تعلقه بايسا. فهو يتعامل مع الطبيعة بالفطرة... يعرف حركة النجوم والرياح..والطيور والحيوانات..ويؤمن بأن الجبال من لحم ودم لان "المئات من الرجال راحوا هنا ضحايا الاختناق في الآبار القديمة... او مطمورين تحت الانهيارات الصخرية المفاجئة داخل انفاق التعدين...".هكذا شعر نيكولا انه ولد من جديد.اجتاحه الشعور وهو محبوس في الكشك الخشبي الذي وضع فيه هو وايسا باعتبارهما شركاء في السرقة. لم يسمعه احد. ولم يكن ايسا يريد الاجابة. فقط استسلم لطقس المرور على الجمرات النارية. طقس بدوي يعتقد ان المظلوم سيمر من النار سليما بينما ستحرق المخطئ.محبة ايسا كبرت في قلب نيكولا بينما كان يختفي من نظره ماريو. الذي شاهده في طقس جنسي (شبه علني) مع "اقبال هانم" الزوجة الشابة لشريكه الباشا (تصغره بواحد وعشرين عاما).. يستدعي نيكولا دائما مشهدها وهي شبه عارية على رمال مرسى علم الساحلية ..ممدة بجسدها اللدن المعطاء كله. امام ماريو الجالس بجوارها شبه عار هو الاخر..يجمع قواقع البشبش الدقيقة الحجم..المتوجة الالوان، ويرصها جامدة ساكنة على الجسد الانثوي العاري..فتتلألأ في وهج الشمس الغاربة كأنها فصوص من جواهر تزينه وتزيده فتنة، فما تلبث الحيوانات اللزجة الدقيقة المختبئة في تلك القواقع ان تطمئن للدفء المنبعث من حرارة اللحم فتخرج اقدامها اللامية وتزحف بقواقعها على جسم المرأة..بنشاط وسرعة هنا وهناك...حول الرقبة والثديين، وفوق البطن وداخل السرة كأنما قد دبت الحياة في القواقع فجاة...بينما تتلوى اقبال هانم مدغدغة مثارة تصرخ وتضحك ويختلط ضحكهما فيخرج من فمها الشهواني على ذلك الشاطئ البكر مزيج من الرعب المصطنع و..اللذة"....اقبال هانم هذه هي التي ستبيعها إلى الخواجة عبدالله وتقودها إلى سرير الملك..لتكتمل مأساة نيكولا.حورية في بيت محروم من الحورياتنيكولا حقق حلم الخواجة انطون والحاج بهاء.الثاني كان في الأصل بدويا... "انفرط جده من عنقود عبادي وانحدر عبر دروب الصحراء إلى حافة النيل، فترك الرعي وزرع وتاجر، وحين اراد الزواج من اقاربه في الصحراء قوبل بالرفض. فالعبادية لا تقبل الزواج من رجل هرب من الصحراء إلى الحضر... وهكذا تزوج الجد العبادي من الريف وولد اولاده واحفاده في صعيد النيل على خير زرعه وتجارته التي كبرت ونمت...".الحاج بهاء اعاد الدائرة من جديد واقام الجسر القديم الذي انخلع بعبور جده من الصحراء للحضر... وعلى هذا الجسر تلقى اخبار مناجم المعادن... والكنوز المدفونة في باطن الجبال... واختار هو ان يسير في مشروع استخراج مادة "التلك" من جبل الدرهيب... وبعقلية التجار سجل في مصلحة المناجم اكتشاف التلك في الجبل ..وتركها حتى وصل صاحب السعادة الخواجة انطون إلى كوم امبو من مصر يبحث عن حق استخدام الخامة الهامة في تشغيل مصنعه لادوات التجميل... فاصبحا شريكين. نيكولا اصبح المدير الفني للمشروع الجديد (بعد ان رفض العودة إلى ايطاليا مع روماريو الذي صفى شركة منجم الذهب مع خليل باشا زوج اقبال هانم..).نيكولا هو الوحيد الذي رفض العودة. اراد ان يكسر السير الطبيعي لتظهر المأساة ويظهر التقدم ايضاً. عاد بهاء بالخواجة انطون. ومعهما معدات حديثة واول سيارة جيب تخترق الصحراء ... وعاد ايسا في صورة ابنه ابشر بعد ان مات وهويحاول اصلاح بئر الماء المهجور... وعادت ايليا الصغرى إلى ابيها.الوحيد الذي رفض العودة هو نيكولا. لم تنجح محاولات ايليا الكبرى وهي بكامل فتنتها عندما سافرت اليه ورفض فكرة الرجوع إلى ايطاليا وادارة املاكها... ايليا الكبرى عادت بخيبتها. والصغرى صممت على البقاء مع ابيها.وكلاهما ايليا... ونيكولا كانت تحركهما احلام وغرائز." ايليا شهوة جامحة..كما ان الجبل شهوة جامحة ...كما ان تلك الصحراء من حولها بسكونها الصوفي شهوة كبرى اشد جموحا...".كان نيكولا يشعر برجفة الاورجازم (انتقال سائل الحياة..وتحقيق الاخضاب) حين يقف في قلب الدرهيب العظيم..في الراديب الحارة والسراديب الباردة..يتحسس الجدران البكر مختبرا طراوتها....محددا بالطباشير الابيض علامات لعماله ليثقبوها بآلاتهم..ويحشون في بكارتها اصابع متفجراتهم (تقنية حديثة اخرى تغزو شهوة الصحراء والجبال بالابتعاد عن طقوس الطبيعة)...".اصبح الجبل بديلا لزوجته.لم يكن يمارس الجنس (حتى في المرة الوحيدة التي شملته فيها اقبال هانم برعاية الغواية ..لم يشعر بالصدمة والدهشة..)... "كانت الطبيعة امرأة عظمى احتوته واستأثرت بجموحه وحيويته...".اللقاء الجنسي مع الهانم اشعره بأنه وحيد ..استدعت احلام يقظته "ايسا" ..ثم في المنام حضرت ايليا الكبرى عارية كما اعتادت ان تظهر في لياليهما القديمة.كان في صراع مع الشهوة.. يوفر طاقته كلها لإنشاء مدينة في الجبل عامرة بالخصوبة والحركة.ايليا الصغرى..حملت معها الفتنة والألم... اصبح الخواجة انطون أباها الشتوي في ايام المدرسة تعيش في بيته بغاردن سيتي: "حورية لم تبلغ عامها العاشر بعد في بيت محروم من الحوريات..." كانت السيدة زوجة انطون بك مصابة بمرض اقعدها عن العمل والانجاب... بل اقعدها عن السير نهائياً.ونيكولا... هو الأب الصيفي لايليا يستضيفها في مدينته الخرافية في قلب الجبل... هناك في الدرهيب حيث اقام حياة عائلية جديدة... في المدينة ذات البيوت الخشبية. والطبقة الثالثة في الجبل التي عثر فيها على الخام... وميناء... و"عائلة كبيرة من الرجال..حياة جدية خشنة جافة وقاسية".وجاءت ايليا الصغيرة لتضفي على الحياة الخشنة الجافة شيئاً من حنانها وجمالها... كانت تنمو مع مدينة ابيها مع "ابشر" ذكرى ايسا الحية... كانت حورية نزقة لم تكن تتورع حين يأتي ميعاد حمامها ان تجري إلى براميل الماء عارية وتقفز فيها... جمالها بري انضجته شمس الصحراء وهواؤها... هذا الجمال سيكون زهوة الحفل الذي حضره الملك.ماحدث يشبه حفلات الجنس الجماعي. الملك جاء لزيارة مشروعات انظن وبهاء. أو أحلام نيكولا. صادفته حكاية عجيبة عن بدوي توعد عروس البحر التي اختطفت عشرات من اهله ان يقتلها بعد ان ينام معها. الصدفة جعلت البدوي يقابل عروس البحر وهو يصطاد الاستاكوزا للضيوف. لم يعرف انها ميتة. واجبرته حاشية الملك على ان ينام معها امام الجمهور. كان هذه بداية الطقس الصاخب: الذي كتب في الرواية متأثرا بما كان يقال عن حفلات الملك فاروق الجنسية ونزواته ومغامراته وصائدي النساء.احد هؤلاء اصطاد ايليا.وساقها إلى سرير الملك حيث دعاها إلى رحلة الصيد لتكون هي صيده الفاتن.شارك في الصفقة: اقبال هانم كقوادة ارستقراطية طبعا. والخواجة انطون ابوها الشتوي الذي لمعت شهوته في ان يتزوجها بعد ان يفتتحها الملك. وبالفعل غيّر اسمه إلى الحاج عبد الله ليستطيع الطلاق من زوجته المقعدة... وحلم بأن يكون اباً للجنين الملكي.اكتملت الصفقة. ولم يبقَ الا نيكولا.مصير الآلهة العاشقةنيكولا... حلم في غيبوبته.واستيقظ وجدها بجواره منهكة. مغتصبة. متهالكة الساقين. تصور ان ما حدث في الحلم حقيقة. فجرى والقى بنفسه في البحر بملابسه... وهناك هاجمه سمك القرش... وفي محاولة انقاذه لم يستطع التهام إلا جزء من صدره فقد معه الذكورة كما قال الاطباء.اعتبرها عقاباً الهياً. نام مع ابنته ففقد ذكورته. اكتشف الصوفية مع مريدي ابو الحسن الشاذلي وتعلم منهم كيف يجاهد نفسه ليتوحد مع الكون... وبعد صفقة الزواج من الحاج عبدالله (انطون سابقاً) وظهور الحمل عليها اعتبر انه صاحب الحمل فخطف الطفل المولود وتركه للضباع تنهشه... عاد وحاول الهروب إلى سراديب الجبل... ربما يعود ويتحول إلى صخرة مثل "كوكا لونكا" أي يفقد الجزء الفردي ويندمج مع الطبيعة... هرب ولاحقته ايليا... وعندما تعثر عليها يضرب برجله سنادات صخرة معلقة لتنهار وخلفها ايليا في محبسها الابدي يسمع صراخها... صرخة الم ودهشة... الصرخة تعاتبه وتدعوه للبقاء معها... كأنها تلوح له بعالم مسحور هما كفيلان بخلقه في تلك الصخور الصماء ليعيشاه معاً جنباً إلى جنب كما كانا دائماً... رجل وابنته... او رجل وامه... اورجل وامرأته المعشوقة والمفضلة!!
«فساد الأمكنة» لصبري موسي رواية مصرية تنفرد في أجوائها الغريبة
سمير اليوسف
ينطبق على رواية «فساد الأمكنة» القول تماماً بأنها علامة فارقة في الرواية العربية. فهي لا تُحيلنا الى عمل سابق او لاحق من أعمال مؤلفها صبري موسى، ولا الى الرواية العربية عموماً.
ومقارنة هذه الرواية، التي صير الى نقلها الى الانجليزية حديثاً (وصدرت عن دار إنترلنك في نيويورك بترجمة من منى ميخائيل) مع «حادث النصف متر»، الرواية الأولى والسابقة للمؤلف، تشي بأن موسى شاء ان يسلك سبيلاً في القصة مختلفاً عما اختطه في عمله الأول. اما مقارنتها بما سبقها من أعمال روائية مصرية وعربية عموماً، فأنه ليدل على سعي الى إنشاء سرد جديد ومناطق خيال غير مطروقة من قبل. بيد ان ما أتى به الكاتب وغيره من كتّاب القصة والرواية يدل على ان «فساد الأمكنة»، وعلى رغم أثرها في نفس القارئ، لم تُرس نمطاً من الرواية مختلفاً- وهي كانت قد كُتبت عام 1970 متسلسلة اولاً في مجلة «صباح الخير»، ثم أعيد إصدارها في كتاب بعد اربعة اعوام على ذلك.
وما هذا في الحقيقة الاّ لأن الرواية تبدو ثمرة لقاء نادر او اجتماع عناصر لا يمكن لها ان تجتمع أكثر من مرة واحدة. بل ان هذه الفكرة بالتحديد، اي اللقاء النادر او اجتماع ما لا يمكن اجتماعه غير مرة واحدة، تكاد تلازم كل بُعد من أبعاد هذه الرواية.
وعلى ما يخبرنا الكاتب في المقدمة فإن فكرة الرواية تعود الى ليلة قضاها في «جبل الدرهيب» بالصحراء الشرقية قرب حدود السودان، اي انها ثمرة لقاء غير مدبر بالجبل الذي سيكون مسرح حوادث القصة بل وأحد شخوصها الأساسيين. فإذا ما جئنا الى بطل الرواية نفسه، اي نيكولا، ألفيناه مزدوج الندرة من حيث حضوره في مثل هذا المكان وفي السرد العربي عموماً. فهو المهاجر من مدينة روسية صغيرة، مقيماً في تركيا تارة وفي إيطاليا تارة أخرى، لا يُقرّ بوطن أصلي وبما يجعله أبعد ما يكون عن الشخصية الاوروبية (الخواجة) في القصص العربي.
وحضور نيكولا شأن حضور ماريو المهندس الايطالي والباشا المصري والخواجة انطون وإيليا، ابنة نيكولا، ولاحقاً حضور صاحب العرش وحاشيته الباحثون عن ضرب من اللهو واللذة مختلف يستجيب الى شهواتهم الجامحة، لهو حضور إنساني دخيل، غير محتمل، ولا يؤدي في النهاية الى ولادة ما هو جديد، وانما الى صراع قدري ومأساة. لعل في مثل هذه النهاية دلالة غنية ليس على طبيعة هذا الاجتماع الدخيل ولكن ايضاً على طبيعة السرد الروائي الذي بقي يتيماً في القصة العربية.
والصراع الذي يقع ليس ذلك الصراع الأزلي ما بين الطبيعة والانسان، وإنما بين الأهواء والنوازع والمعاني المنسوبة الى كل من يلعب دوراً في هذه الحكاية ـ ما بين الاتحاد والانفصال والتفكك، ما بين البراءة والفساد، وما بين العطاء المنظم والجشع. بيد ان تضارب هذه المعاني والقيم لا يتولد عن حكاية رمزية او أمثولة ساذجة، حيث يكون هناك من الشخصيات ما يمثل البراءة من جهة وما يمثل الفساد، من جهة ثانية. فالصراع المعني قدرياً ومأسوي النهاية على وجه ما يكون في المأساة الإغريقية، ليس بين قوى الخير والشر وإنما بين قوى متكافئة، إن في الصلاح او الإثم، وهو ما يجعله مأسوياً اصلاً.
فنيكولا وإيليا وكيرشاب وإيسا ضحايا المأساة، يظهرون من جانب البراءة والاتحاد والعطاء، وفي الوقت نفسه هم ليسوا ابرياء تماماً من المشاركة في الفساد والجشع، من الشهوات المحرمة والكبرياء المسرفة والادعاء. نيكولا، مثلاً، يحاول الاخلاص لتلك الوحدة الطبيعية التي يمثلها الجبل والمقيمون بجواره منذ البدء. وهو يحاول الذوبان فيها واتخاذها موطناً وأصلاً، غير ان وجوده هناك انما هو تواطؤ في عملية انتهاك هذه الوحدة وافشاء اسرارها واستنزاف ثرواتها. وتواطؤ نيكولا هذا لا يقتصر على قيادة حفر أنفاق في الجبل واستخراج ما في جوفه من معادن، في اطار عملية لا غرض لها سوى الكسب الخالص، ولكن ايضاً في الشهوة المحرمة التي تراوده تجاه ايليا. فهو وان لم يثر او يُشبع شهوته، فإنه لا يختلف كثيراً عن الخواجة انطون او حاشية السلطان ممن يتخذون الطبيعة وسيلة للثراء المجرد من اية قيمة او معنى، او موضوع اشباع رغباتهم المحرمة والشاذة. ولئن وقع فريسة إحساس مطبق بالخطيئة، وهو ما يدفعه في النهاية الى الفتك بإبنته ووليدها، بإعتبارهما مظهريّ الخطيئة، فليس نتيجة الالتباس العقلي الذي يُلمّ به. على العكس من ذلك، فإن الالتباس العقلي لهو نتيجة إحساس دفين بالخطيئة يتعاظم ويظهر على سطح وعيه بما يؤدي الى الالتباس المذكور. ففي دخيلة نفسه يدرك انه قد أخل بالعلاقة الطبيعية التي تربطه بإبنته وبالمكان نفسه. فالشهوة التي تراوده تجاه ايليا لهي خيانة للعلاقة الطبيعية التي تربط الأب بالابنة. وهو من خلال تواطئه مع أمثال الخواجة انطون قد انتهك العلاقة الطبيعية القائمة ما بين الجبل واولئك الذين يأتون طالبين ما يحتاجونه من خيرات، ومن ثم فإنه يخون المكان الذي شاء ان يتخذه موطناً.
وإذا ما كان هذا الاجتماع غير المألوف لشخصيات وعوامل مختلفة الأصل والطبيعة قد كشف عن منطقة خيال جديدة في القصة العربية، فلقد أملى لغة سرد مفارقة للغات السردية السابقة، سواء تلك التي أرسى كاتب شأن نجيب محفوظ أسسها، ام تلك التي اشتغل عليها وابتكرها كتّاب شأن يوسف ادريس، ومن بعده يحيى الطاهر عبد الله ومحمد البساطي وابراهيم أصلان وجمال الغيطاني وغيرهم من كتّاب جيل الستينات الذي ينتمي صبري موسى اليهم أصلاً. فليست مرجعية المخيلة القائمة خلف «فساد الأمكنة» مألوفة او مشتركة مع أعمال سابقة بما يجعل الإحالة واضحة والدلالات والمعاني الواردة محددة. ومن هنا كان لا بد من سرد ذي طاقة مجازية عالية يفي غرض وصف وجود غير مألوف واخبار حوادث تاريخية وراهنة نادراً ما ترد الاحالة اليها في اللغات السردية والمتداولة، فضلاً عن غرض الإحاطة بمعانٍ شأن البدء والبراءة والاتحاد والفساد والخطيئة والجشع بوصفها معانٍ كبرى ومطلقة.
يحاول المؤلف الاستعانة بأساطير ادبية عريقة وخرافات شعبية ومحلية، شأن حكاية عروس البحر، بيد ان الجهد الأكبر في استيفاء اغراض السرد انما يقع على عاتق اللغة المجازية نفسها. فعلى هذا النحو يسوق لنا الراوي صورة المكان: «لو أتيح للملمح ان يكون مرئياً لطائر يحلق عالياً، محاذراً في دورانه المغرور ان تصطدم رأسه المريشة بقمم الصخور ونتوءاتها، لرأى جبل الدرهيب هلالاً عظيم الحجم، لا بد انه هوى من مكانه بالسماء في زمن ما، وجثم على الارض منهاراً متحجراً، يحتضن بذراعيه الضخمتين الهلاليتين شبه وادٍ غير ذي زرع، أشجاره نتوءات صخرية وتجاويف، احدثتها الرياح وعوامل التعرية خلال آلاف السنين».
فالرائي المفترض (الطائر) ومنطلق الرؤية (من أعلى) واللغة المجازية المستخدمة في وصف ما يمكن رؤيته، تتضافر جميعاً لتضعنا ازاء عالم ناء، بل أسطوري الطبيعة بحيث يستحيل عقلنة ما يجري فيه من خلال الاستناد الى معاني حياة الاجتماع الانساني المتداولة. ولا غرابة اذا ما بدا السرد في بعض الأحيان «توراتي» الصدى وتجريدي الطابع. فحيال صورة البدء الاسطورية وما تنطوي عليه من بُعد وفراغ، يواجه المخيلة، لا مناص في النهاية من لغة استعارية تنبري لملئ المسافة الفاصلة ما بين المتلقي والصورة: «أيليا شهوة جامحة.. كما ان الجبل شهوة جامحة، كما ان تلك الصحراء من حوله، بسكونها الصوفي، شهوة كبرى جامحة».
مثل هذا التعويل على المجاز يدل على ان لغات السرد السابقة على ظهور هذه الرواية ما كانت لتستوفي شروط ولادة القصة. بيد ان هذا التعويل بالذات يدل على ان هذه اللغة ما كانت لتصلح لأي عمل آخر ما عدا هذه الرواية الفريدة اليتيمة.
قصيدة مجهولة للكاتب صبري موسي
شعبان يوسف
لا يختلف أحد علي قيمة الكاتب والصحفي الكبير صبري موسي، صاحب الرواية الأبدع والأشهر في إنتاجه المهم «فساد الأمكنة» هذه الرواية التي كتبت له شهرة أوسع بين أبناء جيله، وأفسحت له مقعداً كبيراً بين كتاب الرواية المصريين والعرب، لما تتسم به من أبعاد إنسانية جمة، ربما ندر أن أحداً كتب مثلها، وكانت هذه الرواية هي نتاج إحدي سنوات التفرغ، وثمرة طيبة وناضجة لهذا التفرغ، الذي أصبح مطية لكل من هب ودب، ولكن صبري موسي استثمره ليبدع هذه الرواية العظيمة॥ بالإضافة إلي روايات -بالطبع- مهمة ورفيعة المقام مثل: السيد في حقل السبانخ، وحادث النصف متر، ومجموعاته القصصية القميص، وجها لظهر، وحكايات صبري موسي، وغير ذلك من أدب رحلات، وكتابات صحفية عديدة।ربما تكون هذه جوانب معروفة من وجوه الكاتب، لكن صبري موسي الذي بدأ النشر في الخمسينيات بكتابة القصة، وعرفه قراء مجلة «الرسالة الجديدة» التي كان يرأس تحريرها يوسف السباعي، وعرفه أيضاً قراء مجلة التحرير التي رأس تحريرها لفترة ثروت عكاشة، وفي غمرة هذه الكتابات الإبداعية، عثرنا علي قصيدة نثرية، منشورة في مجلة «الرسالة الجديدة» العدد الثامن عشر سبتمبر 1955، تحت عنوان «انتظار»، وهذه كانت مفاجأة سارة لنا، رغم أن القصيدة تتسم بروح سردية، عالية، لكنها تميل نحو الشعر، وأظنها من ثمار رحلة بحث الكاتب عن الشكل الأدبي المناسب، ووقعها بالاسم الذي كان يكتب به آنذاك «صبري محمد موسي"
عند المصباح المنور في خفوتفي أسفل الطريق المنحدر إلي محطة القطارببلدتنا الساحلية الوادعة..كنت أنتظرك.. كل أمسية..وحين كنت لا تأتين في موعدكوكان يعلو صفير القاطرة وهي تدرج علي القضبانوأبخرتها الرمادية تتصاعد في كثافة وتملأ السماءورذاذها يتساقط في قطرات تصفع وجهي..كنت أحس أنني موضع سخرية من كل الأشياء!وفي الأمسيات الباردة الممطرة..والغيوم تحلق فوق رأسيوالضباب يملأ الشارع الضيق المنحدروالمصباح يختنق نورهكنت أنتظرك أيضاً..وكنت أثق تماماً من أنك لابد ستأتين..وكان المطر يبلل كل ملابسي..وكان القطار الأخير يغادر البلدة..وتصفعني أبخرته المتناثرة..وتهمس أوراق الشجر حولي في حفيف..والموج الصغير يزحف إلي الشاطئ في ملل..ويعود الحمالون والعمال بعد الانتهاء من العمل..من نفس الطريق..وينظرون إلي..والأمل في لقاء بيوتهم..يشيع في وجوههم سعادة حارة..وأكون أنا وحدي.. واقفاً بلا حراك..ويتساءلون:هذا الغريب المبلل.. ماذا تراه ينتظر؟..أشعر ساعتها بأن الدنيا كلها تفارقني..وأني جد غريب..وأن بقلبي وحشة فتاكة عاتية..شعور طفل في الليل..ضل الطريق إلي منزله..!ويخبو الأمل رويدا في مقلتي..ويكاد يموت..ثم فجأة..أراك قادمة تتعثرين في حفر الطريقمن بعيد..وتعبرين الجسر..وحقيبة كتبك لصق صدرك..؟تختلسين من وقت صديقتك..التي تستذكرين معها..لحظات لقائنا..!لشد ما كنت أحبك حينذاك..ثم..أوصلك إلي منزلك..يدي في يدكوقلبي جوار قلبكوعيون العمال العائدين في أول الليلترمقنا في كلال.. طوال الطريق..ولا يكف الشجر عن الهمس..وحفيف الموج الصغير يدرج علي الشاطئ..ونحن نعود..وفي الأمسيات الحارةكان يطول بنا السهر..كنا نمشي علي الطريق المنحدر إلي آخره..ونركب قارباً يعود بنا ما مشيناه..وأسماك بحرنا الشهيةتقفز حول قاربنا..تختلس النظر حين تلتقي منا الشفاه..والنوتي الصغير يقود القارب في هدوء..وكل شيء يوحي بسكينة القلب..أيام..كانت عذبة..جميلة..وكنا سعداء..وكنت أحبك أعمق الحب..لكن..تغير الزمن اليوم..يا حبيبتي.. يا زوجتي..!فلم أعد انتظرك..وأصبحت أنت طوال الأمسيات..الحارة.. والباردة..تقفين في نافذتك المنورةوذراعاك علي حافتها..ووجهك الدقيق العذب علي كفيك..تنتظرينني حتي أعود..!ولست أدري.. لم لا أعود مبكراً؟..إلي بيتنا الصغير الدافئ...؟إنه شعور سخيف يدفعني للتأخر!..لثقتي في أنك عندي....أجدك في البيت دواما...وقتما أعود...يا حبيبتي الصغيرة..أنا أشعر أنك تتعذبين بانتظاري..كما كنت أتعذب في أمسيات حبنا الأولي...لكني لا أريد عذابك...سأنتظرك دائماً...في ميعاد لقائنا الأول..عند المصباح المنور في خفوتفي أسفل الطريق المنحدر إلي محطة القطارتعالي إلي هناك...كل أمسيةلنعود معاً...إلي البيت
محطات كاشفة في رحلة صبري موسي الأدبية
فتحى عامر
هذا الحديث إلى التوقف عند محطات كاشفة فى رحلة أدبية عمرها نصف قرن، والهدف.. سبر أغوار هذه الرحلة، والكشف عن الأسئلة الأساسية التى ألحت عليها وتحكمت فى مسيرتها الفكرية والفنية.. صاحب الرحلة هو الروائى والقاص وكاتب السيناريو صبرى موسى والبداية كانت مع السنوات الأولى لعقد الخمسينيات من القرن العشرين، كانت الأنواع الأدبية تشق طريقا جديدا يتواكب مع المتغيرات السياسية والاجتماعية التى شملت الوطن العربى كله وعبرت عنها ثورة يوليو، وكانت القصة القصيرة والرواية والشعر فى سباق للإجابة علن أسئلة التحديث، وكان صبرى موسى وهو يكتب قصصه القصيرة الجديدة على رأس المجددين فى هذا الإبداع الفريد.. وعندما كتب روايته الفاتنة فساد الأمكنة فى السبعينيات أحدثت هزة فى الرواية العربية عبّرت عنها وماتزال عشرات الدراسات الجادة..، قبل ذلك كتب صبرى موسى روايته حادث النصف متر التى أحدثت أزمة فى البرلمان لجرأتها. وفى الثمانينيات روايته السيد من حقل السبانخ وهى رواية تعكس الخلل فى الحياة البشرية المعاصرة نتيجة التقدم العلمى الهائل والتخلف الروحى المهول. وصبرى موسى أصدر عدة مجموعات قصصية وله عدة كتب فى أدب الرحلات، وكتب السيناريو والحوار لعدد من الأفلام الشهيرة مثل البوسطجى وقنديل أم هاشم وهو من مواليد دمياط عام 1932 ويعمل بالصحافة منذ عام 1954 وكان من المجموعة المؤسسة لمجلة صباح الخير. مؤخرا تعرض صبرى موسى لأزمة حادة ومباغتة أحدثت قلقا واسعا فى الوسط الأدبى حيث تعرض للإصابة بجلطة فى المخ وخضع لبرنامج علاجى مكثف كلل بالنجاح لكنه مازال يخضع لبرنامج علاج طبيعى للقضاء على الآثار الجانبية. قلت له: -عندما بدأت الكتابة الأدبية فى أوائل الخمسينيات تقريبا كنت تسمى ما تكتبه حكايات وأحيانا قصص قصيرة ما سبب هذه الحيرة؟. -- فى الوقت الذى كتبت فيه القصة القصيرة فى أعوام 1950، 52 كان التيار القصصى السائد يتمثل فى رومانسية يوسف السباعى وإحسان عبدالقدوس وواقعية محمود البدوى وأمين يوسف غراب، وكان هناك محمود كامل المحامى بأسلوبه المعروف وكانت هذه التيارات جميعا قد بدأت تحاول التمرد على التيار الرومانسى الذى بدأت به القصة القصيرة فى أوائل الأربعينيات، وخلط هذا التمرد الرومانسية بالواقعية، حتى قامت ثورة يوليو، وهى تحمل فكرة العدل الاجتماعى وإنصاف الطبقات المطحونة، وبدأ تيار جديد من الواقعية الاشتراكية يسود القصص المنتج فى تلك الأيام. وكنت ألاحظ أن القصص القصيرة أو تعبير القصة القصيرة لم يكن متحققا، فأحيانا تطول القصة وتمتلئ بالأحداث وتخرج فى كثير من الأحيان عن وحدة اللحظة ووحدة الشخصية، وتكاد تقترب من الرواية، ولاحظت أيضا فيما أكتب الميل إلى التركيز والتحديد والارتباط بلحظة زمنية مختارة وموقف نفسى محدد تواجهه الشخصية الإنسانية. لعل هذا قد حدث بحكم طبيعتى التى لا تميل إلى الثرثرة، وطريقتى الذهنية فى مواجهة الحياة والتى تميل إلى التوقف عند التفاصيل الصغيرة، وكثيرا ما كنت أرى فى هذه التفاصيل الصغيرة الدقيقة عوالم حافلة بالعناصر الدرامية. - هذا عن القصص فماذا عن الحكايات؟ هل كانت شكلا جديدا من القصص غير مسبوق وما هى منابع تجربتك الخاصة فى هذه الحكايات؟. -- كان للعمل الصحفى تأثيره الكبير فى توافر العناصر القصصية بحكم تنوع البيئات والأمكنة التى كنت أتحرك فيها، ففى فترة من الفترات بدأت فى العام الأول من الستينيات كنت كثير السفر، بل إننى أيضا فى كثير من الأحيان كنت أسافر دونما سبب سوى فكرة الانتقال والرؤية أى السفر نفسه: مثلا كثيرا ما كنت اتخير عشوائيا بلدا من البلاد المصرية الموجودة فى دليل السكك الحديدية!. بلدة أو قرية أو مركز من المراكز التى يمر بها القطار، فأقضى بها يوما أو يومين حسب إمكانات تلك البلدة، وأذهب إلى الأسواق، وأحتك بالناس، واستمع إلى حوارات المقاهى، وأتأمل نماذجها البشرية. وغالبا ما كنت أعود من تلك الرحلة بقصة أو بعديد من القصص. تلك كانت فترة الاختبار والتجريب وقد أنتجت أكثر من مائة قصة اخترت نصفها تقريبا، وأصدرته فى كتاب عنوانه حكايات صبرى موسى. - لماذا اخترت هذا العنوان؟. -- بسبب الاسلوب أو الأساليب التى تعددت وتنوعت فى سرد تلك القصص. فبعضها كتب بطريقة المسرح، وبعضها كتب بطريقة السيناريو السينمائى، وبعضها كتب بطريقة النادرة العربية، وبعضها كتب بطريقة الراوى الشعبى، ولكنها كانت تتميز جميعا بالعنوان الصحفى الطويل المثير مثل: الخباز وزوجته التى تخرج كل يوم أو طويل عريض على الفاضى أوالأفندى ضحك على الحصان وهكذا. وكانت تتميز أيضا بالسرد البسيط المركز الذى يلخص ويومئ ويوحى ويشرك القارئ فى استكمال الكثير مما هو غائب عن الكتابة، وكانت تتميز أيضا بتدفق الشخصيات والوقائع كموج زاخر فى بحر الحياة المصرية العارم، وقد حاولت أن أقدمها فقلت إنها حكايات دنيوية مزدحمة بالحوادث والمفاجآت، حكاية للضحك، حكاية للبكاء، ونسبتها إلى نفسى باسم حكايات صبرى موسى لأنها كانت تجربة فى الكتابة غير مسبوقة بنموذج يقاس عليه. - كان بإمكانك أن تسمها قصصا فلماذا لم تفعل؟ وما موقف النقاد منها؟. -- تجنبت أن اسميها قصصا حتى أجنب النقاد من الغرق فى إثبات أنها ليست من النوع السائد من القصص القصيرة. أو أنها خرجت عن التقاليد المتبعة فى السرد القصصى أو أنها، أو أنها.. وتركت لهم الفرصة للنظر فى هذا الشكل كما هو، ومحاولة تصنيفه.. وقد نجحت تلك الخطة فعلا فى إثمار عدد من التحليلات والدراسات التى كتبها كتاب أو نقاد متمرسون، مثل الأديب يوسف الشارونى الذى نسبها إلى النادرة العربية، واعتبرها تحديثا لذلك الفن الأدبى، ومثل الدكتور صبرى حافظ الذى اعتبرها اكتشافا لجذور القصص العربى، الذى كانت تفتقده القصص القصيرة العربية التى استمدت أشكالها الشائعة من القصص الغربى ومثل الدكتور مجدى توفيق، الذى اعتبرها كتابة ضد الكتابة، التى يتبادلها المثقفون ولا يستطيع العامة التى تدور حولهم القصص أن يشاركوا بقراءتها، فهى تستمد أسلوبها فى السرد والحكى والتنوير من نفس الأساليب، وبنفس الطريقة التى يتداولها العامة من الناس، فهى كتابه بهم ولهم. ومثل دراسة الأستاذ كمال النجمى التى تؤكد أنها قصص قصيرة مائة فى المائة بل إنها من أحسن القصص القصيرة التى تنشر الآن. - من خلال تجربتك الشخصية كأديب وصحفى، إلى أى مدى استطاعت الصحافة أن تطبع بصماتها الأسلوبية على القصة القصيرة خصوصا، والأدب عموما؟. -- فن القصص القصيرة نشأ أولا بسبب الصحافة ورغم ذلك فقد ظل فنا ثقافيا، ولكنه فى أساليبه وطريقة سرده ظل متعاليا ومنفصلا عن مستويات القراء، ومع تطور الصحافة واتساع انتشارها بدأت تتخلى عن أساليبها اللغوية التى اكتسبتها من بداياتها بالشعر والقصة والمقالات الأدبية، لقد أصبحت خبرية وأصبحت مباشرة فى التقاطها للوقائع والحوادث ونقلها إلى الناس، واستطاعت أن تخلق لنفسها تلك الأساليب الحديثة السريعة، التى تحقق سرعة توصيل الرسالة. لقد استطاعت تلك الأساليب التى تعتمد على السرعة والتركيز المشوق أن توثر فى الأدباء الذين يكتبون القصص الأسبوعى للصحافة. ونجح بعضهم فى أن يمزج تلك الأساليب بالأدب فاحتفظ بالفن اللغوى، وتخلص من الجزالة والإطناب والثرثرة اللغوية التى لا طائل من ورائها. - لاحظت اختلاط الزمان وتداخله فى قصصك القصيرة، ولاحظت أيضا أنك تبنى هذه القصص دائما على معادلة تنتهى بالهزيمة.. فلماذا؟. -- المشكلة الإنسانية فى الحقيقة هى الزمن، فالإنسان يطرح فى الوجود ليخوض سباقا ضاريا مع هذا الزمن، وعندما يواجه موقفا فإن العقل البشرى لا يعمل فى إطار اللحظة الراهنة فقط، ذلك لأن ذاكرة العقل تستحضر بسرعة فائقة الزمن الماضى، وتنطلق بسرعة فائقة أيضا لتصور المستقبل الذى سينتج عن تلك اللحظة، وهكذا ترى أن الإنسان بالفعل يعيش الماضى والحاضر والمستقبل خلال سباقه الزمنى هذا الذى يعرف جيدا أنه قد ينتهى فجأة دونما إنذار وينتهى بذلك وجوده. بالامل فهو إذن سياق محكوم بالهزيمة فى كل الأحوال. - يبدو أن المكان هو البطل فعلا فى روايتك فساد الأمكنة نحن أمام جغرافيا متوحشة إذا صح التعبير: صحراء شاسعة وجبال شاهقة تثير الرهبة ومكان كله مكتظ بالمفاجآت، وبشر من نوع آخر يعيشون فيه، هل لهذا المكان علاقة بحياتك؟. -- عشت طفولتى فى صحراء صغيرة.. هذه الصحراء الصغيرة كانت تضم حقولا حافلة بالأشجار والزرع، وتضم فرعا رئيسيا من النيل، وتضم مساحة هائلة كبحيرة، ويحدها من جانب: البحر المالح، هى جزء من الدلتا، أو هى طريق الدلتا الشمالى الشرقى، وكل ما احتوته من ذرع ومياه عذبة أو مالحة منتزعة من تلك الصحراء. لقد عشت فى وسط مائى، ولكن الرمل الأصفر الممتد بلا نهاية كان يحيط بى ليذكرنى أننى رغم هذا كله فى صحراء، ولعلك تلاحظ أن هذه الصحراء الصغيرة تحيط بغالبية البلاد المصرية جميعا حتى فى داخل الدلتا.. ولهذ كانت دهشتى الكبرى وكان انفعالى حينما رأيت الصحراء الحقيقية: الأصل: بجبالها وهضابها وسهولها ووديانها وصخورها ورمالها، وأيضا بنوع الحياة الشاقة المحفوفة بالمخاطر التى يمارسها نوع مختلف من البشر. وكانت هذه الصحراء هى وجبل الدرهيب، مكان الرواية. - تقصد الصحراء الشرقية فى جنوب مصر التى كتبت فيها فساد الأمكنة، ومع ذلك يظل السؤال: كيف واجهت تلك الصحراء وهل ذهبت إليها فى البداية بهدف كتابة رواية؟. -- واجهت تلك الصحراء بشخصيتين: الأولى هى الصحفى المحمل بمسئولية الكشف عن نقائص الحياة البشرية وسوءاتها، فى الجغرافيا والبشر ووسائل الإدارة.. وكانت تلك الصحراء الشرقية التى تفصل بين مصر والسودان أو التى تربط مصر بالسودان جديدة علينا بعد اتفاقية الجلاء التى أزاحت المستعمر عن الأرض المصرية فى السويس والهايكستب والسخنة وما وراءها، وفتحت البوابة لدخول تلك الصحراء فى شهورها الأولى لعودتها إلينا، دخلت فى مهمة صحفية لتنبه المسئولين والناس لما تحتاجه تلك الصحراء لكى تدب فيها الحياة وتثمر خيرا وفيرا للوطن. وطوال هذا العمل الصحفى المسئول المهموم بالواقع كانت الشخصية الثانية بداخلى، وهى شخصية الأديب أو الفنان، تشارك وتراقب وترى وتنفعل، وتستخدم الخيال فى التحليق. الخيال الذى لم يكن له مكان فعال فى الأداء الصحفى، وظلت تلك الشخصية تقوم بعملها المستقل فى العقل الباطن حتى إذا ما انتهى الصحفى من مهمته وأدى رسالته التى عادت بأثر كبير على الواقع الجغرافى والبشر، بدأت تلك الشخصية الثانية فى الانفراد بالساحة، وبدأ الخيال يتجسد فى أفكار ورؤى وهواجس كعادة اللاوعى فى تقليب الفهم، ثم وجدتنى مشدودا إلى إفراغ الذاكرة الداخلية هذه من هواجسها الفنية فكانت فساد الأمكنة. - لماذا انتهت مصائر كل الشخصيات تقريبا فى فسا الأمكنة بهذه النهايات المأساوية؟. -- أريد أن أؤكد لك أن المأساة فى النهاية لم تكن مخططة أو مصممة منذ البداية، على أن تنتهى تلك النهاية المأساوية.. الذى يحدث هو أننى أبدأ بالشخصيات وبحدث يتحرك بهذه الشخصيات، ويواصل نموه وتطوره، وحين تجئ النهاية فإنها تكون نتاجا طبيعيا لحركة الشخصيات التى تقود الحدث والأحداث عندما يكتمل لها النضج وتصبح مستقلة بالفعل عن المخيلة القصصية، إنها هى تلك الشخصيات التى تقود الحوادث إلى نهياتها الحتمية. - فى رواية فساد الأمكنة التى تدور أحداثها فى الصحراء الشرقية الوعرة أليس غريبا أن تنتهى حياة أيسا ذلك البدوى. المرتبط بالمكان، نفس النهاية المأساوية لحياة نيكولا ذلك الأوروبى المهاجر أبدا والذى لا يتعلق قلبه بمكان؟. -- ربما لأن المكان نفسه بالصورة التى رأيتها عليه كان مكانا مأساويا، ولك أن تتصور نفسك تمشى على رمال قد يخرج منها فى لحظة عقربا أو ثعبانا رغم أنك تمشى مسافات طويلة هائلة لتبحث عن جرعة ماء. - يبدو أن رواية السيد من حقل السبانخ التى جاءت بعد فساد الأمكنة لم يشغلها فساد المكان بقدر ما شغلها فساد الروح الإنسانية المواكبة للتقدم العلمى والتكنولوجى.. ما هى الأسئلة التى كانت تلح عليك أثناء كتابة هذه الرواية؟. -- المشكلة الحقيقية أن النوع الإنسانى مايزال يحتضر بالغرائز القديمة البدائية التى كانت ضرورة له حينما كان يعيش فى الجبال والغابات بين المخلوقات الأخرى المتوحشة، وفى حين أن تلك الغرائز البدائية ضرورة لتلك المخلوقات منذ الزمن القديم وحتى الآن لتساعدها على الاستمرار فى الحياة، فإنها أى تلك الغرائز، أصبحت غير مفيدة للإنسان الذى استطاع أن يتطور بعقله، وأن يمتلك الأرشيفات الورقية، والتكنولوجية والاليكترونية الحافلة بكل التجارب والحكم والخبرات السابقة، وبالنتائج والمدلولات والتوجيهات المطلوبة لاستمرار الحياة، بل إنها تلك الغرائز قد أصبحت تعمل بطريق عكس هذا الإنسان وتطوره. لذلك نلاحظ أن هذا النوع البشرى الذى ارتقى بالعقل و هذب الغرائز وروضها وامتلك من الأدوات التى اخترعها بعقله ما سيده على الطبيعة فروضها واستخرج خيراتها لصالحه ووصل من العلم لدرجة الإلمام بالكثير من معارف الكون الذى يحيط به. إذا بنا نفاجأ بهذا الإنسان لايزال غارقا فى الصراع الدموى المدمر الذى تشعله تلك الغرائز القديمة التى كانت دليله الوحيد للحياة فى الغابة الفطرية المتوحشة. ألا يعنى ذلك أن هناك خطأ ما فى المسيرة البشرية، وأنه يجب التوقف والبحث عن وسيلة جديدة للقضاء على تلك الغرائز التى عجز التطور وعجزت الأخلاق عن مواجهتها ذلك كان السؤال الملح الذى دفعنى لكتابة السيد من حقل السبانخ. - البعض يرى أنها من روايات الخيال العلمي؟. -- لم تكن السيد من حقل السبانخ تنتسب فى كتابتها إلى الخيال العلمى، بقدر ما كانت رواية علمية تستشرف المستقبل، من استنتاج التطور الطبيعى للنظريات العلمية، وكذلك التطور الطبيعى لما يحدث الآن فى الحياة البشرية من علاقات ووقائع ولعلها حين اكتملت كتابتها فى بداية عام 1982 حملت العديد من النبؤات التى تحقق الكثير منها الآن، مثل التليفونات المحمولة واكتشاف الاستنساخ البشرى وغيرها من وسائل وأدوات الحياة اليومية، إلا أنها كانت تحمل أيضا إنذارا لما يتهدد النوع البشرى من خراب ودمار فى المستقبل إذا لم يسرع بالفعل إلى مواجهة حاسمة فى تلك الغرائز القديمة التى أصبحت تضره أكثر مما تنفعه.
صبري موسي وفساد الأزمنة
فؤاد قنديل
رواية «فساد الأمكنة» وضعت تحت عين القارئ عالما غريباً ومدهشاً لم يقترب منه أحد من قبلمن لم يقرأ صبري موسي ويستمتع بتلك الأنشودة العذبة من أناشيد الإبداع العربي، فقد فاته الكثير، وعليه أن يعوض هذا الذي غاب عنه بأن يطالع ما خطه قلم هذا الكاتب الرقيق والمثقف صاحب الرؤية العميقة دون صخب، والذي قدم للمكتبة العربية عددا من الأعمال الأدبية ذات النفس المتفرد، تأتي في ذروتها واحدة من أجمل الروايات العربية وهي «فساد الأمكنة» التي اقتحمت مبكرا مسارين جديدين علي مستوي الشكل والمضمون، وكانت دون أدني شك وبالإجماع بلورة فنية لا تزال تشع بهاءها علي أفق يتجاوز الخريطة الإبداعية العربية. فعلي مستوي الشكل ارتادت «فساد الأمكنة» عالم الواقعية السحرية قبل أن تبلغنا إبداعات أدباء أمريكا اللاتينية، ووضعت تحت أعين القارئ عالما غريبا ومدهشا، لم يتم البناء عليه واستثماره بأقلام أخري إلا في النادر، وعلي مستوي الموضوع أنقذت الرواية نفسها ـ إذا جاز التعبير ـ من الوقوع في أسر المعتاد والسائد، سواء بالكتابة عن المدينة أو القرية، ورحلت إلي الصحراء، وبالذات المنطقة المجهولة جنوب الصحراء الشرقية لتقدم لنا عملا فاتنا بكل معني الكلمة، ولا يزال هذا العمل وسيظل قادرا علي جذب القراء وإمتاعهم بالقدرة ذاتها علي إلهام الكتاب الشباب. عرفت صبري موسي أواخر السبعينيات، عندما دعوته للحضور إلي ندوة كنت أديرها في شبرا ليتحدث إلي أعضائها عن تجربته الأدبية، ويومها فوجئت به يحدثني بفرح غامر عن روايتي القصيرة «السقف» التي قرأها مطبوعة بالماستر.. وافق علي الحضور، لكن عدة رحلات صحفية خارج مصر شغلته عن الوفاء، ولم تسنح الفرصة بعد ذلك إذ توقفت الندوة أوائل سبتمبر 1981 لأسباب سياسية، لكن علاقتنا أخذت في التصاعد وترسخت في مجلس إدارة اتحاد الكتاب، حتي أصبحت لا أستطيع تحمل غيابه عني طويلا وكان معي ومع غيري عطوفا ونبيلا وصادقا ومتعففا وليس كبعض الكتاب الذين لا يتوقفون عن الكلام عن أنفسهم، فقد لاحظت تجنبه الدائم لمثل هذا اللون من النرجسية المفرطة، وصبري عموما قليل الكلام بلسانه، كثيره بعينيه وإحساسه.إنني لا أستطيع أن أحب كاتبا أعجبني قلمه وصدمتني شخصيته .. ربما أكون مخطئا، لكنني أفضل ألا أرتبط جدا في علاقات مشتبكة مع كاتب يفتقد القيم مهما كان موهوبا، وصبري من القلائل الذين تعثر لديهم علي الكاتب المبدع والإنسان الخلوق.قرأت للكاتب الكبير «صبري موسي» من الروايات قبل «فساد الأمكنة» «حادث النصف متر»، وبعدها «السيد من حقل السبانخ» وقرأت له من المجموعات القصصية «وجها لظهر» «حكايات صبري موسي» «مشروع قتل جارة»، «السيدة التي والرجل الذي» وقرأت له علي حلقات في «صباح الخير» الرحلات التي قام بها إلي البحيرات والي الصحراء وباريس واليونان، وقد جمعها من بعد في كتب، ولم تغب عني ولا عن غيري ـ فيما أظن ـ تلك الطبقات السردية التي تمضي في سلاسة مع تنوع أساليب الطرح معتمدا لغة بسيطة وعميقة ودالة خالية من البلاغة الاستعراضية والتقليدية، حتي ليمكنني القول إن كتابات صبري مثله، هادئة في السطح، موارة في الأعماق، وتحمل الكثير من الخصوبة والتجديد دون ضجة، إذ ليس من بين سماته الشخصية محاولة لفت الأنظار علي أي نحو، ويمكن القول إنه من الفريق الذي يقول كلمته ويمضي.ولا تعد كتابته للسيناريو والحوار للأفلام التي ظهرت علي مدي عشرين عاما من قبيل «السبوبة» وأكل العيش، ولكنها أولا تنطلق من الاختيار الحر والإعجاب السابق بنصوصها، وثانياً لأن ما قدمه فيها من تقطيع سينمائي وبناء درامي وأحداث وحوار ينبثق من رؤية مثقف كبير وإنسان مصري يحس بإحساس المجتمع والناس حسب الفترة التاريخية لكل عمل، وقد استمتعت كما استمتع غيري بأفلام مثل البوسطجي والشيماء وقنديل أم هاشم وقاهر الظلام وغيرها، ولقد ظللت فترة طويلة أشاهد فيلم الشيماء وهو من أفضل الافلام الدينية في اعتقادي، وأدهش كيف أخرجه المخرج الراحل حسام الدين مصطفي وهو مخرج قدير له اجتهاداته، لكن ليس لدرجة إخراج هذا الفيلم الديني الذي يتمتع بشعبية بين الجماهير لا يتمتع بها فيلم آخر، مع كامل الاحترام لكل الجهود المبذولة في هذا السياق.كان صبري ولايزال في كل الأحوال ذلك الفنان المرهف الذي تربي في فيض من مشاعر الحب والإحساس بالجمال إبان فترة الطفولة والصبا في دمياط، حيث ولد في 19 مارس عام 1932، واكتملت التربية نحو الوجدان الراقي في كلية الفنون التطبيقية، وتأكد ذلك مع عمله مدرسا للرسم، إلي أن اكتشف في نفسه حب الكتابة كنتيجة طبيعية لميله الدائم للقراءة.انتقل للعمل في جريدة «الجمهورية» ثم راق له أن يرحل إلي مؤسسة «روزاليوسف» التي كان قد تعرف إلي عدد من أبنائها وأدرك أنها الأنسب لمواهبه مع توفر أفق الحرية، وقد بقي الفنان في الأعماق لا يفتأ يشارك في كل إبداع أدبي وصحفي وفني في الرؤية والنسيج واللغة وروح النص، وقد حرص الحرص كله ألا تأكله الصحافة رغم عمله فيها منذ عام 1952، فقد كان متنبها إلي سوسها الذي يمكن أن ينخر في عروق الموهبة.لم أكن في العنوان أقصد أن أسب الزمان، لأنه مثل المكان يتلقي عبث البشر وغواياتهم، لكني أشير إلي مساحة الفضاء العريض من النسيان التي يتعرض له صبري موسي، وإن كان قد لقي التقدير من الداخل والخارج وترجمت أعماله إلي عدة لغات، لكنه يستحق أن نحتفي بعيد ميلاده وأن نؤنس وحدته، ويستحق أن تقام له الحلقات الدراسية في هيئة قصور الثقافة وهيئة الكتاب والمجلس الأعلي للثقافة، وأن تطبع كتبه وأن تطل عليه عيون الأجيال الجديدة من عشاق الأدب، فرغم المرض الذي يترصده منذ سنوات وتوقفه عن الكتابة، فإن أعماله لم تفقد وهجها، وما زالت تفوح بعطرها وتعلن عن حضورها الآسر.. متعه الله بالصحة وأبقاه بيننا كاتبا وإنسانا ومصباحا مضيئا بنور الإبداع الذي لا يعرف الشحوب

الأحد، 17 مايو 2009

شكر واجب
هذا ملف نقدي حول بعض أعمال الكاتبة القصصية المصرية هويدا صالح, والتي تعتبر واحدة من أهم كاتبات القصة والرواية في جيل الثمانينات, تتميز هويدا بلغة شفيفة غاية في الطزاجة قادرة علي التعبير عن مكنونات روحها, و"مقهي عائم" كانت تتمني أن يتضمن هذا الملف عددا أكبر من الدراسات لكن كان المتاح من الدراسات علي شبكة الأنترنت قليل لا يكفي طموح مقهي عائم, لكن المقهي رغم ذلك تشكر الكتاب والنقاد الذي قدموا مقاربات نقدية وإضاءات صحفية عن إبداعات هويدا. وتتمني أن يكون هذا الملف معبرا عن تقديرها لما تقدمه من أعمال ممتعة للقارئ العربي في كل مكان.

هويدا عبد القادر صالح
دبلوم الإرشاد النفسي والصحة النفسية من جامعة عين شمس 1992
دبلوم من المعهد العالي للنقد الفني ـ أكاديمية الفنون 2007 .
أطروحة ماجستير في النقد الثقافي ( صورة المثقف في الرواية المصرية الجديدة )
مجموعة قصص ” سكر نبات ” ـ الهيئة العامة لقصور الثقافة ـ 1996رواية ” عمرة الدار ” ـ طبعة أولى ـ الهيئة العامة لقصور الثقافة ـ 2007 ـ طبعة ثانية ـ دار فكرة للنشر والتوزيع ـ 2008
تحت الطبع
ـ مجموعة قصصية بعنوان بنت وحيدة وصورة معلقة على جدار
ـ مجموعة قصصية ـ كان يحب الموسيقى
ـ قراءة ثقافية للأدب المصري القديم بالاشتراك مع الدكتورة سمية رمضان والروائية صفاء عبد المنعم
قراءة ثقافية في أدب مصر الحديثة بالاشتراك مع الدكتور محمود الضبع والروائية صفاء عبد المنعم .
مجموعة أبحاث
1 ـ بحث عن طرائق السرد في الرواية الجديدة ـ قدم لمؤتمر الرواية لعام 2007 ـ في المجلس الأعلى للثقافة .
2 ـ بحث عن صورة المرأة في الحضارات القديمة مصر القديمة نموذجاً
3 ـ بحث عن صورة المرأة في السرديات العربية ( قدم لمؤتمر البشروش في تونس في الفترة من 14 / 4 2007 حتى 17 / 4 / 2007)
4 ـ بحث عن سؤال الكتابة بين الذات النسوية والذكورية ( قدم لمؤتمر إقليم القاهرة في الواحات البحرية )
5 ـ مجموعة مقالات في النقد الفني التشكيلي والسينمائي والدراما التلفزيونية

الكاتبة المصرية هويدا صالح

عشق البنات لهويدا صالح
خالد جويلي
إنها رحلة من نوع خاص تسافر فيها مع الكاتبة عبر مشاعر ملتهبة .. ولهفة حانية .. وخوف لعين ( من كل السلطة الذكورية .. في الأب / الأم / الأخ / المدرسات / وآخرين كثيرين مرضى بالسيطرة وذبح المشاعر ) لكن لا سبيل لإزالة المشاعر ! إن قمعها .. أو إخفاءها .. أو الخوف من ظهورها .. كل ذلك يزيدها قوة وتوهجا والمرأة التي تعلمت من حرمان وقهر القرون .. هي عالم موجع .. تغوص فيه الكاتبة براعة رسام قدير .. يضع عشرات الاسكتشات الكاشفة .. دون ثرثرة ـ لفتيات الثانوي .. وتشم منه عبق سحر الانجذاب .. سحر اكتشاف الجسد .. سحر الحب .. سحر التخفي .. سحر مجون الصغيرات معا .. سحر استيقاظ رغبات حلوة .. ممتعة .. ومشوشة ! طبيعية أو سحاقية .. أو بين هذا وذاك .. والمرأة ـ رغم كل شيء ـ محصنة من الكراهية والمرارة ، حتى من قسوة الأهل .. أو فظاظة زوج تحبه .. متمنية فقط أن يشعر بها .. بتوقها للحنان والدفء .. وعندما يبلغ في فظاظته حد الضرب .. والإهانة ف ( 17 ) ، تعرف كيف تسامح .. وتتركه يبكي على صدرها كطفل ! ( إن كل الرجال أطفال بمعنى ما .. لهم قسوة الأطفال وضعفهم وتظاهرهم ) وفيض المشاعر ـ مكمن قوة الأنثى ـ يُغدق على الجميع .. أمومة .. وحنوا أو إشفاقا .. وعندما تعذبها حرماناتها الحارقة تصنع عالما موازيا .. تختبئ فيه ف ( 21 ) أساسه الأحلام " ساحة حريتها الكاملة .. وتحرير مشاعرها وجسدها .. من عبودية كونها امرأة ( ف 19 ) تذوب وتتماهى مع أبطال روايات .. وساحرات .. وعاشقات ، يخترق الأدب مسامها ، وحتى ذلك لن تعدم من ينكره عليها !! فللرقابة ألف عين ساهرة .. تكاد تخترقها وتفضحها (!!) فالأب ـ الذي يعلم كل شيء ( ف 19 ) سيعلم بالتأكيد ، صورة الأب صورة مركبة ، مهما كانت قسوته ، فهي تحبه .. وتحنو عليه بلا حدود .. حتى في أحلامها حين تنتقده على قسوته .. فيبكي ! فتكفكف دموعه .. وتحتضن حزنه ، كل تلك المشاعر الزخمة ستشعر بها وأنت تستمتع بـ ( عشق البنات ) ولا أقصد ـ هنا ـ إلا تقديم لمحة منه ، فهو مركز .. محكم .. رشيق العبارة .. شيق .. وساخر جدا في بعض أجزائه ، يتعامل مع المعضلات الإنسانية .. بسلاسة وبساطة وصراحة نادرة . ولا أملك إلا أن أشكر هويدا ، أن أتاحت لي هذه المتعة النادرة في قراءة ( عشق البنات ) .. ومتعة أخرى في الكتابة عنه .
هويد صالح وروايتها عمرة الدار
عمرة الدار...أسطرة الواقع... امتزاج الأضداد
محمود رمضان الطهطاوي
في قالب روائي تقليدي محكم ، وبسرد متنامي يمزج بين الواقع والخيال ، يمزج الحلم بالحقيقة ، فيدخلنا في عالم خلاب وجاذب ومشوق .. ترتحل بنا " هويدا صالح " عبر روايتها " عَمْرِة الدار " الصادرة عن إقليم القاهرة الكبرى وشمال الصعيد 2007م ، مازجة بين الغرائبي والواقعي في كل الأحداث ، لتحول الخرافة إلى حقيقة معاشة ، وتجسد لنا عالم من عوالم القرية التي كانت تنهل من الخرافة رفيقاً يساعدها على الحياة البسيطة ، وتعيش الحلم على أنه واقع ، هذا المزج ترسمه الروائية بعناية في السرد من خلال حدوتة بسيطة ولكنها تطرح عالم القرية بكل ما فيه من متناقضات وحياة قبل أن تغزوه المدنية بعد الانفتاح الذي حدث في القرن الفائت فغير ملامح القرية .فالرواية بدءاً من عنوانها تدخلنا إلى عالم الأساطير والجن السفلي ، فـ " عَمْرِة الدار " هم عالم الجن الذين يعيشون مع الأسرة في المنزل مرافقاً ، صديقا حميماً مادام لم يؤذوه ولم يحاولوا إزعاجه ، هكذا تصور الرواية وتتكئ وتبرز هذا الواقع بكل أسطرته لتمزجه بالواقع ليصير جزءًا منه .الرواية تمزج بين الأضداد ، فتمزج المرئي المشاهد/ بالغيبي ، والواقع بالأسطورة ، تشطح مع التصوف وتدلف به في أرض الواقع ، في محاولة لأسطرة الواقع التي تنجح فيه الكاتبة بتلك المتقابلات التي تصنعها في سرد الرواية ، من خلال أسرة الشيخ صالح ، ذلك الرجل الذي له جذور علوية ، وسكن صعيد مصر في بداية الفتح الإسلامي ، وظل منزله ملتقى الأقطاب والمريدين والسالكين في طريق الله ، يلتقي الجميع في كما تذكر الكاتبة في بداية الرواية في " قاعة الشيخ علي كان يسميها الحاج صالح ، والمقعد البحري كما كان يسميها باقي سكان المنزل الكبير " . ، وتظل هذه القاعة سراً من أسرار المنزل ، بما يدور داخلها من لقاءات بين المريدين ، وحلقات ذكر ، والشيخ "علي " هو رمز للأسطورة المقدسة ، يلازم كل أفراد الأسرة ، فنجد الحاجة دولت زوجة الشيخ صالح عندما غلبها النعاس جاءها الشيخ صالح وشاهدته يطفئ مصباح القاعة ويغادر المنزل ، نادته فلم يرد عليها ، استيقظت مرعوبة ، وعندما تحكي للشيخ صالح يؤكد لها انه لا يأتي " في المنام زعلان بالشكل ده إلا علشان ميعاد الختمة اللي اتاخر " .وتواصل الكاتبة اسطرة الواقع فنجد " تحية " أو " الفريصة " زوجة الابن الأكبر للشيخ صالح يركبها جني يدعي الشيخ محمد " ينزل عليها ساعة الغضب ، يظل يضربها ويمرمغها في الأرض ، حتى تخور قواها ولا تقوى على فعل شيء " .وهذا الجني يخبر الفريصة بالأحداث التي سوف تقع .أما عبد الرحيم الابن الرابع للحاج صالح " الذي وقع قديما أمام الفرن ويعتقد الجميع أن عمرة الدار ( الجنية) تلبسته ، نجده يعيش كالمجاذيب ، ثم يفاجأ الجميع بعد موت الأب بالتغير الذي حدث عندما يجلس بين الأحباب والمريدين خطيبا يخطف القلوب ، ويكتشف الجمع أن صوته مثل صوت والده " كان عبد الرحيم يتحدث والإخوان يستمعون في نشوة وصفاء ، فالحجب السماوية تنزاح والأضواء الربانية تشع " ، هذا التحول الأسطوري تصنعه الكاتب بحنكة ، فعبد الرحيم لا يخرج من حالته التي حدثت له من عشرين عاما عندما دخل " الشيخ قاعة الشيخ (علي ) ليتعبد ليلة الجمعة ، كان أهل الخطوة –كعادتهم –مجتمعين فيها للصلاة يؤمهم الخضر عليه السلام بعد انقضاء الصلاة والذكر تركوا القاعة غارقة في نور رباني كما الشمس الساطعة . دخل الشيخ يصلي الفجر في القاعة سجد سجوداً طويلاً يجعل الناظر إليه يعتقد أنه فارق الحياة ، وعلى عادة عبد الرحيم الذي كان يواظب على الصلاة وخاصة صلاة الفجر رغم صغر ينه ، انسل من سريره ونزل ليتوضأ ويصلي وهو ابن السابعة التي تعداها بقليل ، رأى النور يبين من أسفل باب القاعة دخل ، بهره الضوء الساطع ، تعلقت روحه بهذا الضوء ، سجد بجانب أبيه وسمع صوتاً يناديه (لقد سجد قلبك لله لا ترفع رأسك أبداً من سجدته ، ثبت قلبك على السجود ولا تسمح له أن ينقلب من حال ) .. "آثرت أن أنقل هذا المشهد لما يجسده من امتزاج بين الواقع والأسطوري ، تلك الأسطرة التي تعتمد عليها بناء الرواية .أما لماذا عاد عبد الرحيم إلى طبيعته بعد موت الأب مباشرة ، فالكاتبة ترسم ذلك بوعي ، فهي تحاول المحافظة على تماسك الأسرة حتى لا ينفرط العقد ، هذا العقد الذي حاول الشيخ صالح المحافظة عليه وحزن كثيرا عندما قام ابنه البكر عنتر لأن زوجته تحدث مشاكل من نساء الدار من أثر الجن الذي يركبها ، " وافق الشيخ على انتقال ابنه البكر ، وهو مرعوب ، أن تكون هذه بداية انفلات حبات العقد الذي حرص على لضمه طوال السنين " ، أما النضر الابن الثالث للشيخ صالح فهو يعيش حياة مستهترة ويجري وراء النساء ، نجده يسخر من رواد قاعة الشيخ علي ، وكان الناس ينادونه بالحاج نضر وهو " ابعد ما يكون عن الحج والحجاج " ولكن سرعان ما يتحول عندما كان عائدا إلى وهو تحت تأثر الحشيش وتخيل منظر الأولياء وهم يشربون المعسل والحشيش ، وفجأة رأى رجلاً لا يعرف من أتى متجهاً نحوه ويقول له : وصل بك الأمر أن تتعدى على رجال الله ، حاول أن يعرف من هذا الرجل ، ولكن الرجل واصل تهديده له وصرخ صرخة عاتية مملوءة بالغضب ، وبعد محاورة اعتذر النضر وهب على المكان نسيم ملك على النضر كيانه ، وتمتم الرجل بتسابيح مبهمة ، وترك النضر متسمرا مكانه ، وسرعان ما تحول النضر ، ودخل في زمرة المريدين ، واستأذن والده أن يرحل إلى مصر بجوار أهل البيت ، وهناك عمل بالتجارة وعرف بتقواه وورعه ، وابتعد عن حياة الضياع . وهكذا ترسم لنا الكاتبة كل الرواية على هذا المنوال ، فتمزج الغرائبي بالواقع ، وتتقابل الأضداد ، وتظهر الخرافة جلياً ، فهي التي تحرك الحدث وتصنعه ، فقبل أن يموت الحاج صالح نجد أن ضوء شديد غمر الدار وانطفأ فجأة ، وعندما تموت الحاجة دولت زوجة الشيح (صالح ) تقوم بدورها (فاطمة ) ، والتي تربط موتها بالخيال الجامح فقد أحست قبل موتها بكسر ضرسها الكبير ، ويؤكد لها والدها بأنه أيضا شاهد ضرسه الكبير ينكسر في الحلم .أما عمرة الدار والتي يتكأ عليها اسم الرواية ، فنجد الرواية تجسد حركاتهم وسكناتهم في لب الرواية فهم جزء من كيان البيت ، يعيشون معهم كأنهم جزء لا يتجزأ من البيت ، يتركون الكوب على الزير ليشربوا مثلهم ، وكثيرة هي المشاهد التي تجسد تلك المتقابلات بين الأضداد عالم الأنس والجن ، وكأنهم عالم واحد ، فهكذا يتمزج المشاهد بالغيبي ، ويتحول الأسطوري إلى واقع ، وتشطح الصوفية في عوالم الرواية لتبرز لنا عالما واحدا منصهرا وممتزجا في بعضه لا نستطيع فصله .لاشك أن الكاتبة حبكت لنا عالماً روائيا مثيراُ ، في قالب محكم ، وسرد متنامي تداخل فيه المحسوس والمرئي ، مع اللامحسوس والغيبي ونجحت في التقابل /التداخل ، واستطاعت اسطرة الواقع ، ولكن ما يعيب الرواية هو تدخل الكاتبة في سياق الرواية بتلك الإشارات التي كثرت في الرواية لتنبأنا بما سيحدث للأشخاص ، فعلى سبيل المثال نجدها تقول : " تدرك أن عمر يضع عينه على صباح ابنة شيخة محفظة القرآن ، عرفت ذلك من وداد صاحبة فاطمة والتي ستصير صديقة لصباح فيما بعد ، تساندها وتكتم أسرارها " .وفي موضع آخر تقول وهي تتحدث عن الفريصة " وفيما بعد حين تتزوج صباح من عمر وتحمل منه ويقترب موعد الولادة, تؤكد لعنتر أن ما في بطنها أنثى " .ونجد مثل هذا عندما تتحدث عن نضر ، وعن عبد الرحيم ، ولاشك أن القارئ لا يريد أن يسبق ألأحداث ، بل يريد أن يقرأ ويكتشف ، فتلك التدخل لا يضيف إلى الرواية ، بقدر ما هو تدخل غير مرغوب في الحدث .لقد استفادت الكاتبة من الموروث الشعبي ووظفت جيدا في سياق الحدث مثل " العدودة " و " أناشيد الأطفال " والموروث الشعري الصوفي ، كل هذا أعطى للحدوتة روح ونكهة .كما تبرز الرواية المرأة الصعيدية الصلدة ، التي تواجه معترك الحياة ،متمثلة في نبوية التي وهبت نفسها لخدمة مقام الشيخ علي بعد موت زوجها وأبيها ورفضت كل عروض الزواج رغم أنها لم تدخل على عريسها الذي قتل ، وفاطمة أيضاً بعد موت مقتل زوجها ترفض كل عروض الزواج وتفتح محل بقالة لترعى أولادها ، وفايزة زوجة النضر نجدها تسعى لزواج زوجها من زبيدة التي عشقها ، وتكتفي بوجوده بجوارها ، وخدمة البيت وترفض أن يلمسها ، وعندما تموت زبيدة بعد ولادة ابنتيها التوأم ترعي الطفلتين .ليس هذا فقط بل تبرز الرواية دور الحاجة دولت زوجة الحاجة فاطمة في إدارة شئون البيت ، ورعايته ، وتتسلم الراية من بعدها ابنتها صباح وتحذو حذوها ، وتحرص على البيت كما تفعل أمها ، وترعي المحسوس واللا محسوس " صباح تزداد شبهاً بالحاجة دولت ، صارت أماً لكل من يدخل المنزل .. توطدت العلاقة بينها وبين عمرة الدار . صارت تفعل لها كل الطقوس اللازمة لجعل العلاقة يشوبها الرضا والسلام ؛ حتى لا تؤذي أحداً من العائلة " . وهكذا يتداخل المرئي والغيبي ويتشابك في ثنايا الرواية ، ويصنع الحدث/ الدهشة .إن " عمرة الدار" رواية بكل ما تقدمه من جماليات الفن الروائي ، وغرائبية السرد ، وأسطرة الواقع ، بدءًا من العنوان ( عمرة الدار ) / البوابة ، وولوجاً إلى السرد والبناء وما يطرحه من أسطرة للواقع في مقابلات تصنعها الروائية بحرفية وحنكة ، والرواية في مجملها تحمل قيمة لأنها تؤرخ لعالم القرية الذي كان ، تجسد حياة حقيقة بكل ما تحمله من متناقضات ، وما تمزجه من اسطره على الواقع العيش ، وما بكل ما تطرحه من خرافة لكنه واقع كانت تعيشه القرية المصرية ، ومازالت بعض القرى في ريفنا على هذا المنوال ان الرواية تحمل الكثير من الدلالات ، وتفتح دروبها وشوارعها لكثير من الـتأويلات ، فيمكن دخولها من أبواب عدة ، فهي رواية ثرة ، تحتمل الكثير من الرؤى ، وتحتاج إلى مساحة أكبر من أن تتحملها تلك النظرة السريعة ، العجلى .

مقاربة نقدية جمالية في قصة "
وكأن الله أراد ذلك " للكاتبة هويدا صالح
سهيلة بورزق كاتبة جزائرية مقيمة بواشنطن
بدءا لست بالناقدة( الحشرية) التي ينالها تقاطع التفتيش والتنقيب والتحليل عن أدق التفاصيل في النصوص الأدبية وخاصة تلك التي توقعها أو يوقعها كاتب(ة) له من التراكمات الثقافية ما يلغي حدود الخيط الرفيع الذي يفصل النقد عن الإبداع .ومحاولتي الاستقرائية لفضاء قصة ” وكأن الله أراد ذلك ” للكاتبة الجميلة ” هويدا صالح ” ليس من باب التفصيل الأكاديمي لسلطة السرد بقدر ما هي معالجة جمالية في الشكل العام للحكي بين جمالية الإتقان التسلسلي للقصة والمتعة السردية التي عاشها القارئ عبر الخيال والتقاطع النصي .تكتب ” هويدا صالح ” مدخل القصة كالآتي :” ربما فاجأتها يده تماما حينما تلمس حلمات صدرها … ربما ارتعشت كمراهقة صغيرة فاجأتها يد ابن الجيران وهي تنثر لدجاجات أمها القمح فوق سطح الدار … اليد التي جعلت جسدها يرتعش الآن … هي ذات اليد التي شعرت طويلا بثقلها فوق رقبتها وصدرها ، وهو يتحسسها في ظلمة حجرتها ، ويبتسم حين تنكمش في أغطيتها ويقول لها كاد صدرك يجف فلا تبالغي في انكماشك … هل حقا كانت مهيأة له الآن ؟”بداية القصة كما تتابعون ذات أبعاد دلالية تتشكل لنا من أول جملة في النص ” ربما فاجأتها يده تماما حينما تلمس حلمات صدرها ” في فضاء هذه الجملة تضعنا الكاتبة أمام خيار اللا رجوع وكأنها تمسك بانتباهنا في قبضة يد من جمال وسمفونية فكيف تترك المفاجأة واللمس والحلمة والصدر وتنصرف ، صورة مشحونة بثقل اللذة والمتعة الفياضة المنبثقة من عطش الألوان الصاخبة في تواصلها الإيقاعي وكأنك أمام مشهد سحري تراكمت فيه الرغبات على اختلاف تناصه .وتواصل الكاتبة في سردها وصف مراهقية الرعشة التي تسربت إلى جسد البطلة من يد ابن الجيران وهي تنثر القمح …مشهد تصويري دقيق يتجلى في طريقة الربط بين سلوك الذكر وهو يفاجئ أنثى بمفردها فوق سطح الدار ثم تفاجئ ” هويدا ” القارئ بتصاعد الحبكة التبليغية إلى التأكيد على أن اليد الآثمة نفسها هي التي شعرت طويلا بثقلها ، ثم إن صورة الأنثى وهي على فراشها مع رجلها لم تكن أبدا سفيفة المعنى أو الذوق ، بل رمزت بذكاء إلى كل امرأة عربية في انكماشها وارتباكها وخوفها- ربما - من أمور تظن أنها لا تفهمها لكن الحقيقة مغايرة تماما فهي تدرك عوالمها النفسية المرضية- أحيانا- التي تداهمها كطلاسم غير مقروءة وغير مفهومة ” ثم هل كانت مهيأة له الآن ..؟” جملة اعتراضية تتحجج بها البطلة للخلاص من هالتها . مدخل سردي له سلطة متعددة النكهات فهو يوازي الوضوح الجلي الشديد الخصوصية ويمهّد لعقدة البنية القصصية غير التقليدية.تستمر ” هويدا ” في مداعبة عنصر التشويق فتكتب : “كانت تنحني فوق تمثالها لتضع الرتوش الأخيرة له .. تسحب بسن سكينة النحث نتوءات الصلصال ، وتصقل حول الفم صانعة غمازتين طيرتا عقلها حين رأتهما أول مرة في مدرج كلية التربية الفنية لشاب كان جالسا يرمقها بابتسامة وهي تلقي ألوانها على المربع الأبيض دون صقل … هل وحشية ألوانها هو ما لفت نظره إليها …أم نظرة الدهشة الدائمة في عيونها هي ما جعلته يقول لها في جرأة لم تتوقعها أحبك …….؟هذا ما نسميه فلاش باك أي العودة بالزّمن القصصي إلى الوراء لنعيش معادلة الخط التي تتحكم في عملية القراءة من دون القفز على الأحداثوالساردة هنا تفضح الماضي بتفاصيله السعيدة والحزينة معا ، ورغم أن شخصية الحبيب جاءت متخفية نوعا ما وغامضة إلا أن الهيكل العام للقصة لم يتأثر ولم يتوقف عن إبراز جمال الحبكة الزمنية للحكاية ، بل إن الغموض أحيانا يصنع تدفقا متوهجا في ميكانيزم السرد ، إن الكاتبة هنا تبرز رمزية ذكاء الفنان وهو يمزج الألوان المشتعلة بهاءا كي يحصل على الإيقاع النهائي لنوتات اللوحة الخالدة.إن اللغة المسيطرة على الفعل الكتابي منحوتة بإتقان في معادلة الوحدة العملية والمكانية والزمانية بل وتضع القارىء في حالة من التواصل شبيهة بتلك التي يعيشها مع الروايات وهذا ما يِؤكد خاصية “هويدا ” في تبليغ الرمز الذي يقول الممكن من الراحة النفسية، أوليست الكتابة راحة إنسانية بالغة التأثير في الآخرين ؟بالغة التأثير كما فعلت هذه القصة في بعض من يعتقد من الكتاب الرجال الذين لا يزالون يفكرون ويكتبون بعقلية ذكورية بحثة تتقزز لها الأنفس ، كيف لا والكاتبة اتهمت في شخصها وإبداعها علنا بعد نشر قصتها التي أحدثت ضجة أدبية مفبركة تدعو إلى إسقاط الكاتبات وإعلان الحرب على كلماتهن وحروفهن في القرن النووي .إن المقطع أعلام الدقيق التصوير الذي نتوقف عند جمال جملته العطشى : ” …تصقل حول الفم صانعة غمازتين طيرتا عقلها حين رأتهما أول مرة …” وطيرتا عقلي أنا أيضا …؟غمازتان …هكذا يبدأ الحب في شكله المعجزة وفي سلطة المتعة غير المنطوق بهالكن الكاتبة تختار النزول بقارئها من أعلى قمة التي اتسمت بالرعشة والرغبة والسؤال والدهشة إلى أعلى قمة أخرى في حزنها وحدادها حين تقول:” كل الأصدقاء عرفوا بحبه لها ، باركوا تلك العلاقة ، وكلهم لم يقدروا أن ينظروا في عيونها ويروا ألمها الدائم بعد موته ، تركوها لذاكرة لا تموت “.يموت الحبيب في الوقت الذي يعيش القارئ حالة من الشوق لمعرفة سر هذه الشخصية ، وتسمى هذه القفزة الفنية في النقد انقلاب الخط السردي لاعتبارات يراها الكاتب ذات فعالية لإخضاع القارئ إلى سلطة التفاصيل القادمة .تقول القاصة : ” حين كانت تعود لقريتها البعيدة كانت تبحث عنه فوق شواشي النخيل ، تبحث عن رائحته فوق الجدران الطمي ، تتلمس حوائط الدور التي مر في شوارعها يعجبون منها ولا يجرؤ أحدهم على تذكيرها بموته ، فهم جميعا كانوا شهودا على قصة عشقها له … أمه ترفض دوما أن تراها حين تذهب إلى رؤيتها ، تقول لمن ترسله لا أقدر على النظر في عينيها ورؤيته فيهما ………”مقطع يصور بحبكته السلسة مشهدا يلخص فيه أجوبة عميقة لكل ما يمكن أن يدور في ذهن القارئ من استفهامات … مات الحبيب فتحولت بعده إلى امرأة مسكونة بخياله الذي لا يفارقها أينما ذهبت .إن إلصاق شخصية الكاتب بتفاصيل النص يدفع بسلطة السرد إلى تقوية عنصر الإيهام بالواقع وهنا تعمل الكاتبة على وضع القارئ في قبضة جسد الحكاية إلى آخرها لتوهمه بقوته لكن الحقيقة أن هويدا مبارزة أدبية بامتياز فهي الجلاد والمجلود في الوقت نفسه.ثم تواصل الحكاية : ” عادت بظهرها إلى الوراء ، فاصطدمت به هو الواقف خلفها منذ دقائق .. لماذا فاجأتها يده ؟ أليس من حقه أن يدخل غرفة في منزله حرمت عليه طويلا ؟هاهي ” هويدا تعيدنا إلى حاضر البطلة وكأنها تقتلعنا من الماضي غصبا لأن المقاطع السابقة لم تكن مجهّزة إلى أكثر من ذلك أو ربما لأن حجم القصة لا يقبل إلا بهكذا فضاء.تعود بنا إلى غرفة البطلة وتمثالها حين فاجأتها يد زوجها ، فاقتربت منه تسأله ” منذ متى وأنت هنا ؟ سؤال الرعشة والرغبة وكأنها تسأل من جهة ثانية منذ متى وأنا هناك ؟و منذ متى وأنا بعيدة عنك ؟ هي الآثمة في حقه ورجولته تواصل الكاتبة سردها : ” لم تنتظر جوابه ، فقط اقتربت بوجهها منه ،وتشممت لأول مرة منذ سنوات أنفاسه . أغمضت عيونها ، وانتظرت أن يأخذ شفتيها المرتعشتين في فمه … ظل يتأملها ، وهي مغمضة العينين ومنتظرة ……… قال في صوت هادىء: كأني بشوفك لأول مرةوكأن الله أراد ذلك”يشهد هذا المقطع لحظات مهمة في القصة، حيث ينتصر الزوج على صبره الطويل ويتمكن بلمسة حنان وحب من يده أن يعيد قلبها وروحها إليه في رمشة عين ، ثم لماذا هذا التحوّل الفجائي من البطلة ؟ هل يمكن أن تكون ” هويدا” من مدرسة إقناع القارئ بواسطة اللغة فقط ؟ بل إنها تقنعه بتسلسل الأفعال أيضا ضمن البنية التسلسلية لوقائع الحكاية ، وهذا السّباق اللغوي يبين مدى تحكم القاصة في نظام الكلمة داخل السياق السردي .نواصل في المقطع التالي : ” ما الذي تغير ، لماذا اشتعلت تماما بعد لمسته ، هي ذات اللمسة التي طالما سببت لها قشعريرة في جسدها ، أنفاسه هي ذاتها التي هربت منها خمس عشرة سنة ، خمس عشرة سنة تهرب بوجهها خلف رقبته ولا تقدر على تشمم رائحته وأنفاسه ….”اللافت للنظر في قصة “وكأن الله أراد ذلك ” ، أن المستوى السردي داخل إشكالية النص يلعب دورا حداثيا في ترتيب قانون الجدلية والتفاعل بين عنصر التبليغ وبنية تعطيل المحاكاة لتحرير فعل السرد ، وهذه النمطية من الكتابة لا تخضع بالتالي إلى جزئية قانون السببية الذي يعالج فضاء النص بحرية بالغة.ما الذي تغير إذن ؟ هل هي الذات أم الروح أم المشاعر أم الانفلات من قبضة الماضي ووهم الحب الميت بقرار إلهي.تنفعل البطلة في لحظة تتداعى فيها مشاعرها الأنثوية وتتذكر وهي المتناسية رجلها الشرعي الذي يلازم حياتها بعقد مكتوب وموثق منذ خمس عشرة سنة .تكتب ” هويدا ” : ” وجهه احتل ذاكرتها منذ أن أخبرها الطبيب بموته ، طاردها في صحوها ونومها ، حين كان يثور الراقد في سريرها عليها لأنها تقضي معظم وقتها في مرسمها تصطاد ملامح رجل لم تسمح لها بالفرار يوما ، كانت تبكي له في الليل بعد أن يتمكن من جسدها ، تبكي له حتى يسمح لها أن تسكن مرسمها الذي يسكنها ، كان يعجب من ملامح وجه يتكرر في كل لوحاتها ، ولكنه لم يسأل يوما عنها ، كل لوحة ترسمها تحمل لمسة منه ….”أي قلب تحمل هذه الأنثى المتمردة على قانون حياتها وارتباطها برجل شرقي لا يعي فنها وروحها المرتعشة في مرسم كلّه ذكريات ؟ ، في مرسم يختفي فيه رجل آخر يسكن عقلها وخيالها وسمعها ونبضها وجسدها .لكن ” هويدا ” هنا وكأنها تحوّل المعادلة الرمزية إلى زوج البطلة فكيف لرجل مهما كانت قناعاته الإنسانية والمعرفية أن يتغاضى النظر عن نفور زوجته منه وقضاء معظم وقتها في نحث جسد لرجل غريب الملامح ؟ هل هي الثقة العمياء ؟ هل هي المحبة على الصبر ؟ هل هو الانتظار ؟ هل هو استغلال الوقت لإذابة جليد قلبها ؟هي المفارقة الأدبية إذن التي تميّز “هويدا” في احتمال خلق حالة نفسية مختلفة لشخصياتها ، وبالتالي فهي لا تخضع سردها لما يمكن أن يجزمه القارئ من أول جملة في الحكي الضمني داخل النص .إن الخطاب السردي في ” وكأن الله أراد ذلك ” أداة للتركيز على توصيل الأحداث كما تراها الكاتبة وليس كما هو متعارف عليها عرفيا وتقليديا ، وهنا تكمن خاصية التركيبة الخيالية لأحداث العرض القصصي ، فقد جاء ت ديناميكية البنية السردية مغايرة لمثلث البناء القصصي القديم وحتما كشف القارئ عن فنية البناء وهو يتنقل بحرية داخل خيال الكاتبة .دعوني أقفز على بعض المشاهد القصصية إلى المقطع الذي يقول : ” قالت لها صديقة يوما الموت يحرر الناس من قهر المحبة ، فلماذا يستعبدك أنت ؟ ”هل الموت يحرر من المحبة حقا ؟ رغم أنني لا أوافق هذه الفكرة في معناها الضمني إلا أن البعض منا يتخلص بها من عيوب في شكل المحبة التي قد لا تمارس سلطتها كما يجب وليس كما جاء على لسان الصديقة،إن هذه الجملة تشرح أكثر مدى عذاب البطلة بذكرى حبيبها وهي الزوجة والأم .إن القصة هي في النهاية رحلة داخل سيكولوجية التفاصيل ، تبحث في معايير النسيج للأحداث وتذيب في عالمها حمولة السرد الذي ينتقل بمنظار الحكي من حيّز إلى آخر .نتابع : ” هل حقا تحررت منه حين أكملت لأول مرّة تمثاله ، حين قبضت على ملامحه كاملة …”نعم لقد بات الآن على البطلة أن تتنفس عميقا وترى الأمور من حولها على حقيقتها وتستدرك هول الغموض الذي رمت زوجها فيه وأرغمته بطريقة ما على الصمت كارها ومتسائلا .هي البداية إذن عند نقطة الخلاص من قلق الوهم وغول التمثال ، هذا التمثال الآسر الذي اختصر روحها في صلصاله وتقاسيمه المنحوتة بيد امرأة عاشقة حد الموت ، لكن القلب يفضل العودة فورا إلى الأرض ، إلى الواقع ، إلي الزوج ، إلى الأولاد بعد رحلته الفضائية في عالم كله خيال ودرب من الوهم.نتابع : ” أمسكت بيده واتجهت إلى حجرة نومها …….”ماذا عساها ستمنحه في الفراش بعد هذا البرد المتوحش من المشاعر والجسد؟ستمنحه عسيلتها كما لم تفعل من قبل وستمارس معه كل الطرق الجنسية المؤدية إلى عمق عنفوان ذكورته وشهوته وشبقه .ونامت البطلة من دون وجه تمثال أخرس .لقد أسرني النص في حبكته القصصية الملتهبة وغمرني بحالة من الذهول أمام ثوابته السردية التي تكشف عن ثقافة الكاتبة غير المحدودة ضمن إطار التحايل على اللغة ، بل إن الكاتبة هنا تكتب وهي عارية ومتحررة من الجمل التي لا تقول المشهد بعنف .لقد استطاعت ” هويدا صالح “المرور بالقارئ إلى بوابة المتعة والسحر ومكنته بالتالي من ولوج خط الثوابت السردية المتواترة ، إنها علامة على سلطتها القاهرة التي أجبرتنا بها إغراءا وإيقاعا داخل نص أقوى من أي نقد وأعمق من أي جمال .قصة ” وكأن الله أراد ذلك ” سلطة سردية لا تشترط الحقيقة كمرجع استهلاكي ، بل تشترط ميكانيزم الدلالة الذي لا يخضع إلى إطار التبليغ .
نص القصةوكأن الله أراد ذلكهويدا صالحربما فاجأتها يده تماما حينما تلمس حلمات صدرها … ربما ارتعشت كمراهقة صغيرة فاجأتها يد ابن الجيران وهي تنثر لدجاجات أمها القمح فوق سطح الدار … اليد التي جعلت جسدها يرتعش الآن … هي ذات اليد التي شعرت طويلا بثقلها فوق رقبتها وصدرها ، وهو يتحسسها في ظلمة حجرتها ، ويبتسم حين تنكمش في أغطيتها ويقول لها كاد صدرك يجف فلا تبالغي في انكماشك … هل حقا كانت مهيأة له الآن ..؟ .. كانت تنحني فوق تمثالها لتضع الرتوش الأخيرة له .. تسحب بسن سكينة النحت نتوءات الصلصال ، وتصقل حول الفم صانعة غمازتين طيرتا عقلها حين رأتهما أول مرة في مدرج كلية التربية الفنية لشاب كان جالسا يرمقها بابتسامة وهي تلقي ألوانها علي المربع الأبيض دون صقل … هل وحشية ألوانها هو ما لفت نظره إليها …أم نظرة الدهشة الدائمة في عيونها هي ما جعلته يقول لها في جرأة لم تتوقعها أحبك ………….؟كل الأصدقاء عرفوا بحبه لها . باركوا تلك العلاقة ، وكلهم لم يقدروا أن ينظروا في عيونها ويروا ألمها الدائم بعد موته ، تركوها لذاكرة لا تموت .حين كانت تعود لقريتها البعيدة كانت تبحث عنه فوق شواشي النخيل ، تبحث عن رائحته فوق الجدران الطمي ، تتلمس حوائط الدور التي مر في شوارعها ، تسأل الناس عنه ، فيعجبون منها ولا يجرؤ أحدهم علي تذكيرها بموته ، فهم جميعا كانوا شهودا علي قصة عشقها له … أمه ترفض دوما أن تراها حين تذهب إلي رؤيتها ، تقول لمن ترسله لا أقدر علي النظر في عينيها ورؤيته فيهما ………………عادت بظهرها إلي الوراء ، فاصطدمت به هو الواقف خلفها منذ دقائق .. لماذا فاجأتها يده ؟ أليس من حقه أن يدخل غرفة في منزله حرمت عليه طويلا ؟التفتت إليه بجسدها ، اقتربت من وجهه تماما وقالت في همسـ منذ متي وأنت هنا ؟لم تنتظر جوابه ، فقط اقتربت بوجهها منه ، وتشممت لأول مرة منذ سنوات أنفاسه . أغمضت عيونها ، وانتظرت أن يأخذ شفتيها المرتعشتين في فمه … ظل يتأملها ، وهي مغمضة العينيين ومنتظرة ……….. قال في صوت هادئ :ـ كأني بشوفك لأول مرةوكأن الله أراد ذلكما الذي تغير ، لماذا اشتعلت تماما بعد لمسته ، هي ذات اللمسة التي طالما سببت لها قشعريرة في جسدها ، أنفاسه هي ذاتها التي هربت منها خمس عشرة سنة ، خمس عشرة سنة تهرب بوجهها خلف رقبته ولا تقدر علي تشمم رائحته وأنفاسه …وجهه احتل ذاكرتها منذ أن أخبرها الطبيب بموته ، طاردها في صحوها ونومها ، حين كان يثور الراقد في سريرها عليها لأنها تقضي معظم وقتها في مرسمها تصطاد ملامح رجل لم تسمح لها بالفرار يوما ، كانت تبكي له في الليل بعد أن يتمكن تماما من جسدها ، تبكي له حتى يسمح لها أن تسكن مرسمها الذي يسكنها ، كان يعجب من ملامح وجه يتكرر في كل لوحاتها ، ولكنه يوما لم يسأل يوما عنها ، كل لوحة ترسمها تحمل لمسة منه ، .في كل مرة تمسك بالفرشاة أو الصلصال ، تري وجهه في ذاكرتها الحية ، وتشكله كل مرة علي مربعات البياض ، دوما تتفنن في رسم لحظة رأته فيها ، تتفنن في رسم ابتسامة أو تعبير رأته ، حتى أطفالها الصغار ، حين ترسمهم تري وجهه .كل الأشياء تحمل رائحته . صوته تسمعه يأتيها في ليلها ، حين ينام صغارها ورجلها الذي ظلمته طويلا معها . تنصت في سكون وخشوع ، تستدعي صوته ، ضحكته ، تعليقاته ، ذكرياتها ما تزال حية وحاضرة ،قالت لها صديقة يوما الموت يحرر الناس من قهر المحبة ، فلماذا يستعبدك أنت ؟!!حاولت كثيرا أن تتحرر من ملامحه التي تسكنها … وفي كل مرة تفاجئها بطرق مختلفة .واقف مازال الساكن سريرها يتأملها وكأنه يراها لأول مرة …………….هل حقا تحررت منه حين أكملت لأول مرة تمثاله ، حين قبضت علي ملامحه كاملة ، فتحت عيونها وابتسمت ، أمسكت بقطعة القماش البيضاء التي غطت بها وجه تمثالها طوال عام كامل ، أوقف الرجل يدها في منتصف المسافة إلي التمثال ، صارت تمسك بطرفي قطعة القماش وهو يمسك بالطرفين الآخرين ، وقف يتأمل الملامح التي لا يعرفها ، يشعر أنه رآها قبلا ، ولكنه لم يستطع أن يتيقن منها ، همّ أن يسألها ، فوضعت أصابعها علي شفتيه في رقة لم يعهدها من قبل . أمسكت بيده واتجهت إلي حجرة نومها ، قررت أن تفعل له كل شيء أراده منها يوما . تشممت رائحته فلم تجدها منفرة كما شعرت دوما . شربت ريقه ، وتركت يده تدعك حلمات صدرها الذي كاد يجف . جسده لم يعد ثقيلا علي جسدها … كل شيء تغير الآن ، قررت أن تعوضه عن سنوات كثيرة عاملته بقسوة ، غابت معه في قبلة طويلة ، ونامت لأول مرة دون أن تسمع صوت رجل ظل واقفا هناك في ذاكرة لم تمت يوما

«عشق البنات».. ترثي حال المقهورات رواية تنبش في المقبرة المخصصة للنساء
الدكتور سيد ضيف الله
"عشق البنات" رواية صدرت في ديسمبر 2008 عن دار الهلال للكاتبة هويدا صالح، وهي تتكون من أربعين فصلاً، وكأننا في حالة حداد روائية تمتد لأربعين يومًا/فصلاً تروي الراوية في كل يوم/ فصل بكائية أو "عدوتة"، ومن المعروف في فن العديد الشعبي أن المُتوفي ما هو إلا تكأة لبكاء موتانا ومصيرنا، فكلٌ يبكي علي حاله. وكذلك تفعل الراوية مع شخصياتها النسائية علي مر الفصول، إذ تبدو تلك الشخصيات تكأة لرثاء الراوية لحالها بوصفها امرأة أو بوصفهن صورًا لكيان واحد وإن اختلفت أسماء الشخوص التي تندرج تحت مظلته. فالكل في واحد هو الراوية، وهذا الواحد موزّع علي كل الشخوص بالتساوي. أما التركة التي تتقاسمها شخوص الرواية فليست سوي مصيرٍ أبان الإهداء عن ملامحه؛ " إلي صباح محمد مرسي التي تنام في مقبرة بلا اسم.. فقط مخصصة للنساء". إن هويدا صالح جعلت من ممارستها فن "العديد" علي طريقة الرواية وسيلة لتغيير وظيفة "العديد" "التنفيسية" التقليدية، فجعلت من روايتها شاهد قبر يعرّف بكل امرأة لم تسكن المقبرة المخصصة للنساء بعد، لكنها تحوّلت هي نفسها إلي مقبرة تُغري بالنبش فيها. إن النبش فعل هدم ومجرد من الإنسانية، وهو نقيض البناء وهو في غاية الإنسانية، لكن عندما يكون الأمر متعلقًا بتحويل المرأة إلي مقبرة، فإن الدلالات تتحول لنقائضها، فيغدو نابشو القبور بهذا المعني أطول عمرًا وأجل قيمة من بنّائي تلك القبور.إن الفصل الأول بمثابة المخطط للرواية بأكملها، حيث تشير الراوية فيه إلي منهجها في كتابة الرواية، وهو أنها تريد أن تعيش حياتها في حيوات أخريات وأن تخلق كائنات تشكلها كما تريد متحررة من دور القديسة الذي يتلبسها ثقافيا رغم أنفها. إن هذه الكائنات الجديدة ما هي من وجهة نظري إلا كرات اللهب المدفونة داخلها، أي في جوفها، وما الجوف إلا التسمية البديلة للمقبرة المخصصة للنساء، "أقول لك : خذي بفكرة صديقك، اخلقي كائنات جديدة، امرحي في حيوات أخري. شكليها كما ينبغي، وكما تريدين"( ص9).ومن هنا، فإننا نجد الرواية بدءا من الفصل الثاني وحتي قرب نهايتها بقليل، أي تحديدًا حتي الفصل الثامن والثلاثين، عبارة عن عمليات استخراج لكرات اللهب عبر كائنات جديدة اتخذت أسماء مختلفة وهي (مها الحسيني- علياء- سلوي- غادة ماجدة عز الدين- عبير أنور- سمية- منال)، ويجدر بنا أن نلاحظ أن الضمير المستخدم في السرد في كل هذه الفصول هو ضمير الغائبة (هي)، ومع ذلك تستطيع الراوية أن تصف أحاسيس كائناتها الجديدة بدقة من يصف أحاسيسه الذاتية. وإلي هذا الحد ليست الرواية إلا رواية نسوية حداثية عادية ترثي حال النساء المقهورات اجتماعيا وجنسيا وثقافيا... إلخ، ومن ثم تثور حينًا علي الرجل القاهر لها أو تشفق عليه باعتباره ضحية الجهل والفقر والمرض، أو تنتقم منه حينًا بأن تحوّله إلي طفل يبكي بين فخذيها استرضاء لأنوثتها. لكن مع الفصل التاسع والثلاثين يظهر ضمير الأنا في الحكي لأول مرة علي لسان شخصية (نجوي) التي أهملتها الراوية حكائيا علي مر الرواية، فلم تخصص لها فصلًا، وإنما جاء ذكرها عابرًا كشخصية هامشية تشكو من تعمد سائق السيارة الاحتكاك بصدرها عندما يفتح لها الباب، وتتعمد أن تركب نفس السيارة كل يوم ولا تعدم تقديم مبررات لنفسها أو لسلوي، لكنه فعل تواطؤ واضح من شخصية نسوية تريد وتشكو في نفس الوقت. إن أهمية هذه الشخصية تكمن في أنها واعية بتجاور المتناقضات في داخلها دون إدانة لذلك التجاور، بل ربما في حالة دفاع عما يحققه ذلك التجاور للمتناقضات من سعادة مصدرها اتساق الذات مع نفسها. ونظرًا لهذه الأهمية فإن تلك الشخصية -بظهورها في الفصل 39 مستخدمة ضمير الأنا بهدف مساءلة الراوية عما فعلته علي مدي 38 فصلاً في الرواية، هادمة لها كل ما غزلته من نسيج روائي- تنقل الرواية إلي منطقة أخري وهي منطقة التمرد علي الرواية النسوية الحداثية التي تضع صورة للمرأة بهدف كسب تعاطف القارئ؛ لأنها صورة تدعو للأسي، تلك الصورة التي قدمتها "عشق البنات" علي مدي 38 فصلاً ونقضتها في فصلين بفضل ذلك الصوت المسائل لبنية الرواية الحداثية."لا تقدمي لي صورة تدعو للأسي، صورة تجعل القارئ لروايتك البائسة تلك يتعاطف معي. لا تقدمي نيابة عني مبررات لما يسمونه سقوطًا. أنا لست ساقطة، ولست امرأة عُذبت برجل ما قهر روحها، لا زوج لي يقهرني، ولا أخ أكبر مارس علي الضغط والحبس ولا أب تخلّي عن أمي أو عاملها بقسوة، انا بنت عادية خالص، تربيت في أسرة عادية ومستقرة". (ص162- ص163)يبدأ هذا الصوت في تفكيك الرواية عبر السخرية من شخصياتها وتصرفاتها الأخلاقية غير المبررة أنثويا. إن هذا الصوت الصارخ المتوتر هو الصوت المؤهل روائيا لأن يحمل أكثر كرات اللهب اشتعالا ويقذفها في وجه الثقافة، وهذه القذيفة هي قذيفة تغني الطفلة بما عزفته يد خالها من ألحان علي جسدها."بنت صغيرة عرفت يد خالها، التي لم تكن مدربة جيدًا كيف تلامسها"ص166/ "وحين فاجأتها دورتها الشهرية، لم يكن معهما أحد في المنزل، غسل(خالها) لها ما بين فخذيها.. صار لها كل الأشياء المريحة والمحرقة وصارت له متعته الوحيدة...لازم أخته سنوات الدراسة، رفض خلالها كل عروض الزواج التي نقلتها له" (ص-ص167-168)بعد هذا الدرس النقدي الذي قدمه صوت"الأنا- نجوي" المتمرد علي صورة المرأة في الرواية الحداثية نجدنا أمام راوية تساعد بطلاتها (غادة/ سلوي)علي الوصول للحظة الغامضة غير المكتملة بعد أن كانت تحرمهن منها باسم الفضيلة أو المحافظة علي "شال الأب ناصع البياض"، فقد حرمت منها ماري عندما جمعتها الصدفة بماري الإنجليزية في غرفة واحدة بفندق، وحرمت منها سلوي التي كانت تنتظر دورها مع بدورو ميرفت ومني في غرفة بدور وهن يدرسن ويحفظن نتائج الحملة الفرنسية!! "وتركت(سلوي) لأصابع غادة التي تبدومدربة، تداعب حلماتها. ضحكت المرأتان مرة أخري، وقالت غادة : لنغلق باب الغرفة"(ص170)علي الرغم من وصول سلوي وغادة للحظة الغامضة واكتمالها بعيدًا عن كل صور الرجل خلف باب مغلق، إلا أن تمرد "عشق البنات" من وجهة نظري ليس تمردًا كاملاً يمكّنها من الخروج عن التصورات الإدراكية السائدة عن المرأة في الثقافة العربية التي تتمرد عليها، لأنها مازالت أسيرة تلك التصورات التي تدرك المرأة باعتبارها جسدًا فحسب، لتبقي نقطة التمرد كامنة فيمن يتعامل مع هذا الجسد وبأي كيفية، ونقطة التمرد هذه لا يمكنها أن تنتج تصورات إدراكية مختلفة عن المرأة تصلح بديلاً لما هو سائد، فضلاً عن أن تنتج تلك التصورات الإدراكية غير المنجزة بعد خصوصيتها علي مستوي تقنيات السرد

الخميس، 7 مايو 2009

"عمرة الدار" للروائية المصرية هويدا صالح
فانتازيا تزخر بعوالم الجن وأرواح الأولياء وكراماتهم
محمد سمير عبد السلام
تقوم رواية " عمرة الدار " للأديبة هويدا صالح – هيئة قصور الثقافة 2007 – على رصد الساردة للحظة تحول الشخصية ، إلى النموذج الروحي المتخيل ، و الكامن في اللاوعي . هذا النموذج ينتشر ، و يتكرر في النص كمكون إبداعي لنشوء الشخصية في العالم ، و التاريخ ، و النص معا .إن عوالم الجن ، و أرواح الأولياء و كراماتهم ، و حتمية تعاقب الظواهر في السحر تندمج في فانتازيا النص ، و تصير سياقا افتراضيا تتحقق فيه قوة الفرد المتمردة على واقعه الأول دون انفصال بين العالمين ، فساردة هويدا صالح لا تتمرد على الموروث الروحي الكامن في اللاوعي الجمعي للشخصيات ، و إنما تعيد قراءته وفقا لإمكاناته الإبداعية الخفية ؛ ففيه قوة الطاقة النصية حاضرة ضمن الحدث الواقعي المستعاد ، و كأن الطيف قد تجرد من حتميات الإحلال في نطاقه الثقافي ، و انطلق في النص ، ليحل في الشخصيات ، و يساعدها على اكتمال التحول باتجاه الذات الممتدة المتجاوزة للأنا الواقعي .تكتشف الساردة وعي الشخصيات عن طريق تنوع التبئير الداخلي ، لتعاين بكارة أحلامهم بقوة المعرفة الروحية ، و تجسدها الأدائي ، و كأنها توحدت بالطيف الفانتازي المؤول لقصص الموروث ، و المتمرد على حتميتها ، و آليتها . إنها تقاوم وعي الشخص بذاته الثقافية المحدودة لتدخله في حالة النشوة ، و الغياب الروحي . هذا الغياب المجرد يجمع دلالات الفرح بالجسد كمدلول أنثوي ، و قداسة الأم ، و أحلام الخصوبة ، و مخاوف القوى الروحية الشريرة ، و معايشة الأولياء ، أو إكمال مسيرتهم . و لكن من خلال استعادة قوة الدافع الأول لولوج المتخيل المتجاوز للشخصي كبديل عن تقديس الشخص المتعين / التاريخي ، فطيفه النصي يحرر الأخيلة ، و الأساطير ، و الحكايات المتواترة عنه .يرى كارل يونج أن حدس الخلود ينشأ من الذات الدائرية الممتدة في الزمان ، و المكان ، و مصدرها الخافية المتجاوزة للآنية ، و المقابلة للواعية ، و من احتوائها للأخيرة يتشكل الكائن ( راجع – كارل يونج – رمزية التحول – ترجمة نهاد خياطة ) .تبحث شخصيات هويدا صالح عن هذه القوة المتخيلة الممتدة من خلال حلولها الآني المتجدد المتجاوز للماضي من خلال آثاره .قد تدل الأرواح غير المحددة التي تحل في الأشياء ، و العناصر الكونية ، و الأماكن و الشخصيات على تقديس خفي للذات الأخرى التي لم تحقق اكتمالها في الشخصية ، و من ثم يغلب عليها الصراخ ، و الخوف ، و نسج أخيلة القوة المدمرة الكامنة في الذات الأخرى الغريبة ، و هنا يتمسك الفرد بوجوده التاريخي ، لكنه يطمح أن يملك قوة الذات التي لا يعرفها . إنه يتمرد على تكوينه و وضعه الثقافي في المجتمع من خلال هذه الغرابة التي تتمتع بقوة حتمية لا تقبل الجدل ؛ فالجدة تخاطب عمرة الدار ، و أولادها في الفرن ، بصورة يقينية تنقل القوة المتخيلة إلى شخصية الجدة نفسها كسر لا يمكن اختراق رمزيته ، و تحل روح رجل قوي اسمه الشيخ محمد في شخصية تحية ؛ إذ يتجلى فيها الانفصام ، و تنازع الوعي ، و اللاوعي في الصراخ ، و الغضب ، لكن لا وعي تحية يتجه أيضا لامتلاك قوة المعرفة التي تنتقل إليها من النموذج الذي يسحق جانب التهميش الأحادي فيها ، و هو الشيخ محمد الذي يوحي إليها ببعض النبوءات مثل إخبارها لعنتر زوجها بأن ما في بطن صباح زوجة عمر أنثى ، و تصدق الساردة نبوءة الشيخ لتؤكد قوة تحية الأخرى ، ففي داخل الساردة رغبة في إنجاز التحول .لقد تحولت حتمية القوة الغريبة إلى نوع من التحرر ، و قبول الذات الروحية الممتدة بتناقضاتها النصية ، و التاريخية ، و الثقافية . يبدو هذا واضحا في شخصية عبد الرحيم ، فقد حكت فاطمة أن الجنية دخلته حين ضرب قطة سوداء بقدمه ، فكان ذاهلا أغلب الوقت ، و لا يعلم أحد أين يذهب . و لكننا نراه عقب موت الحاج صالح يتحدث بصوت الأخير ، و يرى نورا أسفل قاعة الشيخ على المقدسة ، و تأتي الساردة برمز الخضر الذي يؤكد كارل يونج على تجاوزه للزمنية في اللاوعي الجمعي ؛ لتؤكد الساردة تفوق النفس المتخيلة في دائريتها ، و تناوبها في وعي و لا وعي الشخصيات بصورة محررة من آليات الماضي ، فكل من تحية و الجدة ، و عبد الرحيم قد تطهر من أزمة الصراع مع القوة الغريبة المدمرة ، باتجاه التحقق المتخيل ، فجسد الجدة أكثر نضارة عقب الموت ، و صالح يحل في عبد الرحيم ، و تحية تملك معرفة سرية .يرى جيمس فريزر أن روح الملك المقدسة قد تهاجر في ورثته ، و عموما فهي تتجسد في الآخر ، فكان البعض يحتشدون حول المحتضر للإمساك بروحه ، أو يسعون لامتلاك بعض لوازمه مثل خصلة شعر ، أو سن تمساح ( راجع – جيمس فريزر – The Golden Bough ) .هكذا يلتبس صوت عبد الرحيم ، بأبيه الحامل لقداسة الشيخ على ، و غيره من الأصوات التي اكتسبت الامتداد الملكي الطيفي المحرر من الحدود الواقعية . إننا لم نعرف عبد الرحيم إلا من خلال عمليات الحلول الأقرب إلى اللعب ، و الاستبدال و التحول باتجاه قوة غير شخصية تمحو وجوده الشخصي قبل أن يبدأ .و في مسار شخصية النضر تختلط دلالات التحول ، بقضايا النسوية ، في وعي الساردة ؛ لتؤكد جانب التأمل في المرأة ، و تكسبها قداسة المتخيل كمدلول مضاد للصراعات المولدة عن وضعها الهامشي ، لقد أتي الطيف للنضر البعيد عن هذه العوالم المتخيلة ، في صوت قوي يقول له : إلى متى ؟ فتحول سياقه الواقعي إلى أضواء سماوية تختلط بأصوات ذكر ، و ملائكة بأجنحة خضراء ، ثم يحل طيف الشيخ على مشكلته مع فايزة عقب هجره لها و زواجه من زبيدة ، عن طريق تجسد الشيخ في كيس نقود يرسله صالح لفايزة ، عقب هذا التجسد لم تقع عين النضر على زبيدة .لقد انقلب تاريخ النضر عن طريق فاعلية الطيف النصي / الشيخ ، أو الصوت . هذه الفاعلية التي صارت تاريخية أدائية ، صارت سياقا كاملا ، و ليست لحظة تحول مفاجئة . و يعكس هذا اقتران التفوق الكامل للطيف المحرر بتجاوز الأزمة النسائية في النص . النضر هنا لم يكن شخصا ، و إنما جزءا من الطاقة التأملية الأنثوية الكونية غير المحددة ، و قد استبدلت تاريخه الذكري برمته .و تبدو طاقة التأمل كصورة ممتدة في الوعي النسائي في شخصية الصغيرة سلوى التي تسللت عقب نوم الجدة إلى قاعة الشيخ على ، فرأت الحجرة يملؤها ضوء أبيض ، و يتمايل الذاكرون فيها .و ظلت الصورة تلح عليها ، لا كحقيقة واقعية ، أو روحية حتمية ، لكنها مصدر للتحول يتجاوز فيه الضوء حدود الحجرة ، أو تاريخ سلوى الإنساني ، و إدراكها للعالم ، في اتجاه ذاتها المتخيلة .إن لحظة التحول المتكررة في عمرة الدار لهويدا صالح هي لحظة نشوء الشخصية في النص و التاريخ ، و هي لحظة غيابها أيضا في الحلم النوراني ، و الكوني ، و الجسدي المناهض لتجسدها المحدود .